بقلم.. د. طارق الزمر
من العجيب أن ترى اللوم ينهال على الضحية وتنسى الجلاد.. ومن الغريب أن يتوالى التقريع والتوبيخ يطارد المظلوم، بينما يحتمي في ذلك الظالم والجاني، وكأنما قد أعطيناه عذره وبرَّأناه من الجريمة.
لهذا أردت أن أقول كفى لوما للشباب.. كفى عتابا للمظلومين، وكفاهم أن ولدوا بيننا ولم يجدوا يوما ظروفا سوية تحميهم من الانحراف، أو أوضاعا صحية تباعد بينهم وبين التطرف أو معيشة آدمية تحفظ كرامتهم.
فبدلا من أن نتكاتف جميعا لنتوجه باللوم للنظام الذي أوجد هذه الظروف البائسة وحماها بقوة السلاح.. وبدلا من أن نتوجه بالعتاب للمجتمع الذي لم يبذل جهدا كافيا في مكافحة الظلم أو في توفير ملاذات مجتمعية آمنة تحمي شبابنا من الانحراف ومن الانتحار، إذا بنا بكل أسف نجلد الضحية وكأننا نبرأ من ظل طوال الوقت يجلدها ويسلخها بدم بارد.
فالسلطة هي التي قتلت الشاب قبل أن ينتحر، ونظام المجتمع هو الذي ألجأه للانتحار قبل أن يقرر ذلك.. فهو لم يجد حوله بيئة تشجعه على الحياة أو ظروفا كريمة تدعوه ليكون بينها:
* لقد قتلوه في ملاعب كرة القدم حين ذهب يشجع فريقه أو يقضي وقت فراغه.
* قتلوه حين خرج في الجامعة يطالب بحريته وبالإفراج عن زملائه المعتقلين.
* قتلوه حين لم يستطع أن يدفع تذكرة القطار، حيث أمروه بالقفز منه مسرعا.
* قتلوه حين أغلقوا أمامه أبواب العمل وكل منافذ العيش الكريم.
* قتلوه حين اعتقلوه لمجرد أن طالب بحرية بلاده، ثم أودعوه في ظروف قاسية بلا علاج حتى مات.
* قتلوه حين اعتقلوه لمجرد أن وقف في ميدان التحرير يطالب بالحرية والعيش الكريم.
* قتلوه معنويا وسياسيا حين اعتقلوه لمجرد أن رفع علم فلسطين مطالبا بالحرية لأكرم وأشرف قضية عرفها العالم قضية فلسطين.
* قتلوه معنويا حين اعتقلوا الآلاف من أبناء جيله؛ لأنهم نزلوا الشوارع والميادين يهتفون بسقوط الفساد والمفسدين في 20 أيلول/ سبتمبر.
* قتلوه حين حرموه من التعليم اللائق ومن العيش الكريم.
قل لي بربك أين يعيش الشباب بحرية وكرامة، وقد أصبحت هذه الظروف تحيط به من كل جانب.. وقد أصبح زملاؤه وأقرانه يتساقطون حوله كل يوم بلا مغيث؟!!
كل ذلك لا يبرر هذا الفعل الشنيع وهذه الكبيرة الكبرى، فلقد أخطأ الشاب حين لم يواجه مشكلاته ويتصدى، ويقاوم ظروفه، وقرر الهرب من مصيره، وقرر إنهاء حياته.. لكن ما هي خطيئته إلى جوار خطايانا؟! وكيف ننظر إلى جنايته وننسى جرائمنا؟!
إنني أعتذر نيابة عن المجتمع كله لهؤلاء الذين انتحروا بعد أن أغلقنا في وجوههم كل أبواب الرحمة.. أعتذر نيابة عن المجتمع كله لكل شاب لم نوفر له ما يحميه من أخطر وأسوأ قرار يمكن أن يتخذه شاب في مقتبل عمره.. أعتذر نيابة عن المجتمع كله لكل شاب لم نوفر له سبل العيش بعد أن خذلته السلطات الفاشلة، بل والمتآمرة.
وفي الختام، لا يسعني إلا أن أقول لقد قطعت قلبي وأنت تلقي بجسدك من فوق برج القاهرة.. كما قلبي معك وأنت تلقي بنفسك من قطار الموت لأنك لم تستطع دفع مبلغ زهيد هو ثمن تذكرة الموت.. قلبي معك وأنت تلقي بنفسك على قضيب المترو في أرض المعارض.. قلبي معك وأنت تدهسك عجلات القطار في أسيوط.. قلبي معك وأنت تلقي بنفسك في الإبراهيمية ولا تجد من يفديك.
أضف تعليقك