بقلم: أحمد عبدالعزيز
الروح هي أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان، وهي وديعة الله لديه التي لا يُسمح لكائن من كان (حتى صاحبها) أن ينزعها إلا بحقها. وقد فطر اللهُ الإنسانَ على المحافظة على روحه، بشتى السُّبُل، والدفاع عنها، مهما كلفه الأمر، ماديا ومعنويا..
إذن، فالانتحار عملٌ مخالف كُليَّا للدين، ومنافٍ تماما لغريزة الإنسان..
فلماذا يُقْدِمُ الإنسان على الانتحار؟!
ولماذا يُسارع بعضنا إلى تكفير المنتحر، بينما يذهب آخرون إلى التماس الأعذار له؟!
ومَن المسؤول عن وقوع "جريمة" الانتحار؟!
هذه الأسئلة، تحتاج إلى إجابات شافية، ولا يليق بمسلم عاقل أن يجيب عنها بفتاوى "تكفير المنتحر"؛ لردع من يفكر في الانتحار!! وكأن التفكير في الانتحار مسألة "اختيارية"، يمكن للإنسان أن يستدعيها، أو يصرفها، وقتما شاء!! إن هذه الفتاوى (للأسف) لا تتعرض للجناة الحقيقيين، بل تتيح لهم الهروب من المساءلة الأخلاقية والاجتماعية، وليس القانونية فحسب!!
لا أيها السادة!!
فالكفر حتى يكون كفرا، لا بد أن يسبقه إيمان أو إنكار!! أما وحال الشباب على هذا النحو من الضياع والسطحية والجهل بأبسط مسائل الدين، فلا بد من التمهل، ومناقشة الأمر مناقشة علمية فقيهة عميقة، ولا يصح أن يخوض فيها بادي الرأي من الناس، كما هو حاصل!!
فأهل الاختصاص يقولون بأن التفكير في الانتحار، يتولد عن الاكتئاب، والاكتئاب "مرض" يحتاج إلى علاج كسائر الأمراض؛ وهو ينتج عن اضطراب أو خلل في كيمياء الدماغ، ويُحدث هذا الخلل زيادة أو نقصا في بعض العناصر،فينقلب حال الإنسان رأسا على عقب. ومن ثم، فنحن مأمورون من كل الوجوه،بالسعى في طلب العلاج المناسب للمريض، الذي نعتقد (نحن المؤمنين) بأنه يبدأ باللجوء إلى الله، وطلب الشفاء منه، بالتزامن مع إجراء الفحوصات اللازمة، وتعاطي العقاقير المناسبة!! أما المريض نفسه، فلا يمكنه اللجوء إلى الله، إلا إذا "عرف" الله، واستشعر عظمته، وآمن إيمانا مطلقا بقدرته على فعل ما لا يخطر على قلب بشر؛ كي يتكون لديه اليقين بأن الشفاء ممكن، وهذه هي بداية التعافي.
أما الانتقال من طور "التفكير" في الانتحار إلى طور "التنفيذ" فذلك يعود (في تقديري) إلى ثلاثة مُحفزات رئيسة، متوفرة في بلادنا المنكوبة، هي:
المُحفز الأول: هشاشة الإيمان بالله، أو الجهل بماهية الإيمان ومقتضاه، أو انعدامه من الأساس.
الثاني: افتقاد وسادة الأمان، التي يجب أن تتوفر للإنسان، وتتمثل في ثلاث طبقات هي: الأسرة المطمئنة الراشدة، والأصدقاء الأوفياء الناضجون، والمؤسسات التي تُعنى بتقديم الاستشارات والدعم النفسي.
الثالث: وجود سلطة مستبدة فاسدة، لا تُحِقُ حقا ولا تُبْطل باطلا، بل تُحِقُ الباطل وتُبْطِلُ الحق، إذا كان ذلك يحقق مصالحها، ومصالح المرتبطين بها!! ما يعني غيابا تاما للعدالة الاجتماعية، وحرمانا (غير مُبرر) للإنسان من أبسط حقوقه "الطبيعية" ناهيك عن حقوقه السياسية والاجتماعية.
فإذا التقت هذه المحفزات جميعا في لحظة ما، سيطر على الإنسان إحساسٌ عميقٌ بالظلم والاضطهاد، يحجب عنه الحلول، ويقتل في نفسه الأمل، ويلقي به في دوامة من الأسئلة الوجودية، التي لا يجد لها إجابة شافية، تعيد إليه توازنه النفسي، فتتحول فكرة الانتحار إلى قرار، سرعان ما يدخل حيز التنفيذ، إذا لم يجد الشخص المريض من يقدم له الدعم النفسي اللازم في هذه اللحظة الفارقة.
وإذا كان الإيمان "اختيارا فرديا"، فإن رسوخه في القلب "مسؤولية مشتركة"، أطرافها: الفرد، والأسرة، والمجتمع، والسلطة. وكلنا يلمس الجهود الحثيثة التي تبذلها سلطة الانقلاب، في مصر؛ لزعزعة ثوابت الدين، ومحاربة رموزه والمستمسكين به، تحت عناوين شتى، من أبرزها "تجديد الخطاب الديني". ويتم ذلك على أيدي معممين مأجورين، بينما تحتفي هذه السلطة (على الجانب الآخر) برموز المجون والإلحاد، وتُفسح لهم شتى السُّبُل للوصول إلى الجماهير، الأمر الذي يُسهم كثيرا، في زعزعة إيمان الفرد، وتفكك الأسرة، وشيوع السلبية في المجتمع، بل والشعور بعدم الانتماء للوطن.
الانتحار (أيها السادة) جريمة قتل مكتملة الأركان، ومن ثم، فإنه من غير المعقول أن تُقيّد ضد الشخص المنتحر، أو ضد مجهول، بينما المشتبه بهم في ارتكابها "أحياء"!! ويمكن الاستدلال عليهم، في حالتنا المصرية، بكل سهولة. فالسلطة المستبدة الفاسدة، وأجهزتها التنفيذية، هم أول الشركاء في جريمة الانتحار، ولا أقول المشتبه بهم؛ لأنهم لم يقوموا بأداء واجباتهم المنوطة بهم، والمتعارف عليها، شرعا وعقلا وسياسة، وفي مقدمتها صيانة حياة المواطن، وعرضه، وماله، وأمنه الشخصي.. أما ثاني المشتبه بهم، فهي أسرة المنتحر، وثالث المشتبه بهم هم أصدقاؤه وزملاؤه. ومع مزيد من التقصي الجاد، ربما نجد مشتبها بهم آخرين، مثل أستاذ المنتحر في الجامعة، أو رئيسه في العمل، أو شخص مُلهِم خاب ظن المنتحر فيه، أو.. أو..
أضف تعليقك