بقلم: ياسين اقطاي
يبدو أن "اتفاقية ترسيم الحدود البحرية" التي تمت مؤخرًا بين تركيا وليبيا قد ضربت كل التوازنات الدولية، تمامًا كما فعلته عملية "نبع السلام" العسكرية في شمال سوريا.
وبالنظر إلى ردود الفعل على الاتفاقية التي تمت بين دولتين تتمتعان بالسيادة؛ نجد أن لدى البعض معايير أخرى لمفهوم السيادة.
إن اليونان -بقوتها وتصريحاتها إضافة إلى القوى التي تثق بها- لن تجدي شيئًا أمام تركيا، ولذلك بقيت تصرخ فحسب في وجه تركيا؛ إلا أن موقفها من ليبيا كان مدهشا. لقد قررت طرد السفير الليبي في أثينا كردة فعل على موقف ليبيا، معتقدة إن حدودا لها قد تم انتهاكها.
من الواضح للغاية أن ليبيا -في النهاية- قد وقّعت على اتفاقية ترى أن فيها مصلحة للشعب الليبي بشكل كامل، وبالتالي فإن ما تطلبه اليونان من ليبيا هو أن تتخلى عن مصالح شعبها لصالح اليونان!
إن اليونان -التي تتوقع من ليبيا ما لا يمكن أن يفعله أي نظام حكم مخلص لشعبه- تحتاج أصلا إلى وجود علاقة خاصة مع تلك الدولة لكي تتوقع منها موقفا مثل ذلك، لكن من الواضح أن اليونان لا ترغب في إقامة تلك العلاقة مع حكومة ليبيا الشرعية.
ويبدو جليًّا أن سبب ذلك يعود إلى رغبة اليونان في رؤية الجنرال الانقلابي السابق خليفة حفتر زعيمًا لليبيا. إنهم يريدون حاكمًا لليبيا لا يعبأ بمصالح الشعب الليبي بل بمصالحهم هم فحسب، مهما كانت تلك المصالح مضرة للشعب الليبي.
تمامًا كما أرادوا رؤية عبد الفتاح السيسي على رأس السلطة في مصر, ورغم أننا كنا نعلم بما كشفته؛ فإن قناة الجزيرة بثت برنامجا وثائقيًّا يتحدث عن تخلي السيسي عن سبعة آلاف كيلومتر مربع من المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر في البحر المتوسط لصالح اليونان. فلماذا يا ترى فعل السيسي ذلك مُظهراً هذا القدر من الكرم على حساب مصلحة الشعب المصري؟ستستمر رواية هذه الأساطير بما أنها تخدم سرقة ثروات مصر وليبيا.
بالأمس؛ كتب الأستاذ خير الدين كارامان مقالًا قال فيه: إن السبب الحقيقي وراء ذلك هو رغبتهم في رؤية شخص انقلابي كالسيسي على رأس مصر، بدلًا من رئيس شرعي انتخبه الشعب مباشرة كالرئيس محمد مرسي، الذي كان يحكم على أساس الشعور بالمسؤولية أمام شعبه في كل يوم وكل ساعة.
إن الأمر بسيط للغاية؛ الرئيس مرسي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، والإخوان إسلاميون، والإسلاميون لهم علاقة بالتطرف والإرهاب؛ وهذا كله أساطير. ولكن
إن الوثائقي الذي عرضته الجزيرة أظهر أن وزير الخارجية المصري سامح شكري -الذي كان يُجري مفاوضات مع الجانب اليوناني بشأن ترسيم الحدود البحرية في البحر الأبيض المتوسط- قدّم تقريرا للرئيس السيسي عن نتائج المفاوضات، وأوضح فيه أن هناك تعنتًا من اليوناني، وأن مصر ستخسر -بسبب ذلك- سبعة آلاف كيلومتر مربع من حقوقها في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها في البحر المتوسط.
بل علاوةً على ذلك، ورغم أن شكري عيّنه السيسي ذاته؛ فإنه أوصى بضرورة رفض المقترح اليوناني. إلا أن السيسي أصرّ على قبول مطالب اليونان، مما يثبت أنه يهتم بمصالح اليونان أكثر من كونه حاكمًا لمصر. وبالتالي، وباعتماد المقترح اليوناني بهذا الخصوص؛ فإن مناطق المياه التابعة لتركيا -والتي تقع قبالة مصر- باتت ضمنيًّا عائدة لليونان.
والحقيقة هي أن صلاحية تلك الاتفاقية –الموقعة بين مصر واليونان والتي تجاهلت حقوق الشعب المصري- ظلت مرهونة بانعقاد اتفاقية تركيا وليبيا. وبالطبع فإن الاتفاقية التركية/الليبية حققت مصالح البلدين معًا، بيد أن الاتفاقية التي وقعها السيسي باسم مصر منحت -ويا لغرابة الأمر- اليونانيين والقبارصة الروم طبَقًا من ذهب وحفظت مصالحهم.
وبذلك؛ تكون تركيا قد حققت فرصة لمصر كي تعوّض ما فقدته عبر تلك الاتفاقية التي تجاهلت مصالحها بقرار من السيسي؛ إن هذا أمر غريب لكنه حقيقة! ربما يكون السيسي غير معنيّ بذلك، لكن الشعب المصري عليه أن يقدّر جهود تركيا التي أسهمت بها عبر هذه الاتفاقية.
أما نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض في تركيا فإنه رغم كل ذلك لا يزال يرى أن من الضروري تصحيح العلاقات مع السيسي وبشار الأسد؛ لماذا يا ترى؟ هل يقترح ذلك لكي تقوم تركيا بتصحيح علاقاتها معهما، ثم تخضع لاتفاقيات مشابهة؟
ألا يمكننا رؤية هذه الأسماء (أي السيسي وحفتر والأسد) باعتبارها أسماء لدكتاتورِين باتوا "مفضَّلِين"؟ هذه الأسماء -التي نتحدث عنها هنا كدكتاتورِين "مفضَّلِين"- عبارةٌ عن أشخاص تم تعيينهم لإنفاق موارد وثروات بلدانهم على الآخرين؛ فأيُّ المشاكل إذن يمكن أن تُحلَّ عبر الاتفاق مع هؤلاء؟
إن تركيا الآن تمثل مصالح شعبها، كما أنها أيضًا -في الحقيقة- تمثل مصالح شعوب تلك البلاد التي يحكمها أولئك الدكتاتورون "المفضَّلون" الذين تم تعيينهم، ولذلك فإنها تمثل مصالح تلك الشعوب أفضل من أولئك الدكتاتورِين بما لا يقاس.
اتبعوا ولو قليلًا سياسات تركيا الجديدة، وثقوا تمامًا بأن ما ستتعلمونه من ذلك سيجعلكم تشعرون بضرورة التخلي عن سياستكم الخارجية أمام أولئك الذين يرونكم "مفضَّلين" لديهم.
أضف تعليقك