• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم الدكتور محمد الصغير

الشيخ فوزي السعيد إمام ومؤسس مسجد التوحيد في منطقة رمسيس بالقاهرة، وأحد رموز التيار السلفي فيها، كان مسجده يؤمه عشرات الآلاف من المصلين، النسبة الكبيرة منهم من طلاب الجامعات وشباب التيار الإسلامي الذي كان الشيخ فوزي ملء السمع والبصر فيه، ومع مشاركاته بعد ذلك في الفضائيات الدينية والبرامج التليفزيونية، إلا أنه لم يكن من مشاهير دعاتها، ولا من طبقة النجوم في سمواتها، ومرد ذلك إلى أسباب عدة، أهمها في تقديري يرجع إلى الاتجاه السلفي المختلف الذي كان يمثله الشيخ فوزي -رحمه الله- من حيث الاهتمام بالشأن العام، وقضايا الأمة المختلفة، وفضح الظلم، والتنديد بالظالمين، ومراغمة الطواغيت، بل إن لفظ الطاغوت "وهو كُل مُتعدٍ ذي طغيان، أو كان رأسا في الضلال" ما تردد على مسامعي من أحد كما سمعته منه، حتى إذا تكلم في الرقاق وأبواب التزكية فلابد أن يعرج عليه ! لذا اعتقل في عهد حسني مبارك ووُضع على رأس قضية أطلق عليها "تنظيم الوعد" مع الشيخ نشأت أحمد، وكانت سياقات المحاكمة تتجه إلى الإعدام لولا أن صَرَف ولطف!

خونة الدعوة:
والسبب الثاني: أن الشيخ فوزي السعيد لم يكن فقط رمزا للسلفية المجاهدة العاملة، بل أخذ على عاتقه فضح السلفية الخانعة، ممن كان يسميهم "خونة الدعوة" وأحسبه أول من تكلم علانية، وألح مبكرا في التحذير من حزب النور المنسوب إلى سلفية الإسكندرية، مؤكدا أنه يصدر في قراراته وتوجهاته بناء على التعليمات الأمنية، وهو ما أصبحوا بعد ذلك ينافحون عنه علانية، ويفاخرون به!

ولم يستوعب كثيرون ذلك التحذير الشديد في حينه، بل كان البعض يطالب الشيخ فوزي بالتلطف، و"لا ينشر غسلينا الوسخ على الملأ" - حسب التعبير الدارج - فكان يرد بحزمه المعهود: سأنشره لعل الشمس تطهره.

لم يكن الشيخ فوزي أزهريا بل تخرج في كلية الهندسة جامعة القاهرة، لكنه كان من الخطباء المصاقع الذين تهتز لهم أعواد المنابر، وأعاد للأذهان مدرسة الشيخ عبد الحميد كشك في صورة سلفية، لذا كان من النماذج التي تأثرت بها في مجال الخطبة والدعوة، وكان كما قال أحمد شوقي في حديثه عن الأزهر الشريف:

يا مَعهَدًا أَفنى القُرونَ جِدارُهُ

وَطَوى اللَيالِيَ رَكنُهُ وَالأَعصُرا

 

ما ضَرَّني أَن لَيسَ أُفقُكَ مَطلَعي

وَعَلى كَواكِبِهِ تَعَلَّمتُ السُرى

 

لا وَالَّذي وَكَلَ البَيانَ إِلَيكَ لَم

أَكُ دونَ غاياتِ البَيانِ مُقَصِّرا.

شرح أسماء الله الحسني:
كان الشيخ فوزي في خطبته نسيجا وحده يقسمها أثلاثا، الأول: موضوع الخطبة الرئيس ويتناول فيه موضوعا شرعيا يستوعبه من جميع أطرافه، وكانت له خطب مسلسلة في موضوع واحد ربما تستغرق أكثر من عام كما في شرحه الفريد الماتع لأسماء الله الحسنى، وتستطيع أن نقول إجمالا إن خطب الشيخ فوزي السعيد كانت تجسيدا وترديدا لما كتبه الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله.

والقسم الثاني من الخطبة يتناول فيه واجب الوقت حول الأحداث والنوازل التي تقع في العالم الإسلامي ودور المسلم حيال ذلك.

والقسم الأخير الدعاء الذي كان يصل إلى عشرين دقيقة ويزيد، وكان له جمهوره الخاص الذي يحضر من أجله، ولا يفرغ الشيخ منه إلا وقد غسلت الدموع الوجوه والقلوب، لما حباه الله من جمال الصوت وصدق العاطفة، والدعاء بغير المعهود والمحفوظ، بل كانت أدعيته رسائل موجهة وصواعق مرسلة.

تعرفت إلى الشيخ فوزي السعيد ومسجد التوحيد في حقبة الثمانينيات، وكان المسجد صغيرا وحتى تجد مكانا ترى الشيخ فيه، فلابد من الذهاب مبكرا قبل التاسعة صباحا قبل أن تنهمر الحشود، التي تملأ الشوارع المجاورة ومحطة الوقود!

وكان من شدة الزحام كان انصراف المصلين يستغرق إلى صلاة العصر، واستمر المشهد نفسه حتى بعد أن وسع الشيخ المسجد وجعله من طوابق عدة، وأضاف له الأنشطة الاجتماعية بما لا عهد للتيار السلفي به، حيث جعل من مسجد التوحيد قبلة لإغاثة الملهوفين وعون المحتاجين، ومساعدة فقراء المسلمين، لاسيما في مواسم الأعياد وبداية العام الدراسي، والشيخ يشرف على كل ذلك بنفسه.

انضمامه لثورة يناير
ولم يتوقف تميز الشيخ فوزي عند الصدع بالحق، ومساعدة الخلق، إنما ترجم ذلك عمليا فكان من أبرز العلماء الذين انضموا إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير، وشارك شبابها في ميدان التحرير، وظل من حداتها وهداتها حتى بدت تؤتي ثمارها التي سطا عليها العساكر، وانقلبوا على الرئيس المنتخب، ومن ثم عاد الشيخ فوزي إلى مواجهة الظلم، وفضح الانقلاب وتعرية الطاغوت، واستطاع هو وثلة من أهل الحق أن يدحضوا فرية أن التيار السلفي في صف الانقلاب، وأن المعركة بين العسكر والإخوان المسلمين، واشتدت معارضته للنظام وتعرضه للسيسي خاصة ما أدى إلى اعتقاله مرة أخرى قرابة عامين، ماتت فيهما ابنته التي كانت على مقربة من زواجها، وأصابه فشل الكلى لأنه يعاني من مرض السكر من زمن بعيد، ومع تدهور صحته أفرج عنه لكن بتدابير احترازية تمنعه من التنقل، وتلزمه مراجعة قسم الشرطة يوميا كما يُفعل بعتاة المجرمين!

لكنه ظل على وفائه وثباته حتى لقي ربه محمودا كريما، ولهجت الألسنة بالدعاء له والثناء عليه، في بلاد وأوساط ربما لم تسمع به إلا بعد موته، وما ذاك إلا لصدقه في دعوته، وإخلاصه لربه، رفع الله درجته في المهديين، وتقبله في الصالحين.

أضف تعليقك