بقلم.. سامح راشد
ارتفعت نسب الانتحار في مصر، حتى بلغت في الأشهر القليلة الماضية مستوىً غير مسبوق، فقد انتحر أربعة أشخاص في أقل من يومين، ووصل العدد إلى 13 في أسبوع. هذه أرقام شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري.
وربطت تحليلاتٌ كثيرة بين زيادة حالات الانتحار والأداء السياسي والاقتصادي للنظام الحالي الحاكم في مصر، وهو ما دفع مؤسسات رسمية إلى محاولة نفي هذا الاتهام بأكثر من وسيلة، كان أكثرها طرافة تقليل رئيس البرلمان المصري، علي عبد العال، من حجم الظاهرة وانتشارها في مصر، حيث قال إن معدلات الانتحار في مصر ليست عالية، وتعد من أقل المعدلات في العالم. وفضلاً عن أنه لم يستعن بأي أرقام أو يستشهد على كلامه بإحصائيات دولية، حاول أيضاً تكذيب من يعزو الظاهرة إلى الفقر ومعاناة الغالبية العظمى من المصريين، بمنطق سد الذرائع، فقال إن هناك ضرورة لتعريف المواطنين بحجم الإنجازات التي تتم في مصر، وسيشعر بها المصريون لاحقاً.
تحوّل الجدل بشأن ظاهرة تزايد المنتحرين في مصر من أسبابها وطرق علاجها وحقيقة ارتباطها بأوضاع عامة أو دوافع خاصة بكل حالة، إلى مسؤولية السلطة أو عدم مسؤوليتها، على الرغم من أن تحديد المسؤولية لا يكون سوى بتحديد الدوافع الفعلية أولاً. وتجاهل الطرفان، سواء المدافعين عن السلطة بشكل مطلق أو المتصيّدين لأخطائها، أن ازدياد حالات الانتحار في مصر ليس وليد الأيام ولا الأسابيع الماضية، فبالرجوع إلى أرقام منظمة الصحة العالمية وتقاريرها، يتضح أن المعدل في تزايد منذ خمسة أعوام، وأن مصر حققت قفزاتٍ سريعةً على سلم أكثر الدول العربية انتحاراً، حتى تصدّرته منذ عام 2016. قبل السودان واليمن التاليين لها مباشرة، ومتقدّمة بنسبة كبيرة على العراق وسورية وليبيا التي تعاني من اقتتال أهلي وفوضى أمنية. ومتقدّمة أيضاً على لبنان وموريتانيا وجزر القمر وجيبوتي، وهي دول تعاني اقتصادياً بشدة.
لماذا تتفوق مصر على هذه الدول، انتحاراً، وهي أكثر أماناً وتماسكاً كدولة من المجموعة الأولى. واقتصادها ليس أكثر معاناة من الثانية؟ إنها الحرية.. نعم، الحرية. الحق في التعبير. التنفس أفكاراً وتعاطي الآراء وأضدادها. الشعور بأن للمواطن في وطنه صوتاً يُسمع، وكلمة يؤخذ بها أو يُردّ عليها، فالعوز والفقر وانخفاض مستوى الدخل وتضاؤل فرص العمل وآفاق الحراك المجتمعي، كلها أمراضٌ مزمنةٌ في الجسد المصري منذ عقود.
كما أن تماسك الدولة والاستقرار المجتمعي خصيصة مميزة للدولة المصرية الضاربة في عمق التاريخ، فإذا كانت مصر تتميز عن دولٍ تكاد تنهار، أو انهارت بالفعل، بوجود مؤسساتٍ قويةٍ وسيادةٍ كاملةٍ للدولة، فهذا التميز لا يترجَم إلى شعور بالعزّة أو فخر لدى مصريين كثيرين بمصريتهم. وعلى الرغم من أن المعاناة الاقتصادية والعجز أمام أعباء الحياة اليومية البسيطة هي الأصل في حياة المصريين، إلا أنها تجاوزت، في الأعوام الأخيرة، قدرة تحمّل المصريين، وهي قدرة عالية. ولكن الأسوأ أن الإفقار الاقتصادي لم يعد يتخفى أو يتجمل كدواء مُرّ بطعم حلو خادع، وإنما يتجرّعه المصريون بحالته الخام الفجّة إلى حد الاستفزاز. ولا حق لأحد حتى في التبرّم أو التأوه ألماً.
ينتحر المصري لأنه لا يساوي شيئاً عند الدولة، ولا عند أقرانه، إلى حد جعل مدير قطار أي موظف صغير يجبر مواطناً فقيراً مثله على القفز والموت تحت عجلات القطار. عندما يشعر المواطن أن دوره في الحياة هو البذل والعطاء والتحمّل والصبر والانصياع... وفقط، فلا تكون للحياة قيمة، وتفقد أي مبرّر لها، خصوصاً عندما يكتشف بفتوى رسمية أن الانتحار ليس كفراً وإنما مجرّد ذنب، فيكون الانتحار وتحمّل عاقبته عند أعدل الحاكمين أفضل عند المنتحر من حياة كلها عقاب تلو عقاب، من دون ذنوب.
أضف تعليقك