بقلم.. محمد خير موسى
كلّما حلّ اليوم العالميّ للّغة العربيّة تعالَت الأصوات بالحديث عن أهميّة العربيّة وضرورة إعادة المكانة لها والاهتمام بها، والتّأكيد على أنّها هويّة الأمّة، وبقدر ارتباط المرء بها يحقّق وجوده الحضاريّ المنشود.
وهذا الكلام المهمّ يبقى في دائرة الأفكار العامّة والعائمة ما لم يُتَرجَم إلى واقع عمليّ ويتحوّل إلى طريقة حياةٍ يسيرُ بها النّاسُ في واقعهم المُعاش.
ومن المهمّ ملاحظة أنَّ الكثيرين في طور محاولتهم إعادة الاعتبار للّغة العربيّة يعكفون على دراسة وتدريس علومها من نحو وصرف وبلاغة وأدب دون الانتباه إلى أنَّ هذه العلوم هي آلاتٌ ووسائل لتحقيق الغاية الأهمّ وهي تقويم اللّسان وتقوية اللّغة وتحويلها إلى كلامٍ يجري عذبًا فراتًا على ألسنة المتحدّثين بلا تكلُّفٍ أو تصنُّع.
غير أنَّ هذه العلوم تحوّلت مع الأسف من وسيلةٍ إلى غايةٍ بحيث يظنّ المتمكّنُ منها بأنّه أحاط بالعربيّة علمًا؛ حتّى إذا نزل مضمار الحديث كبَا لسانُه وتقهقرت عباراتُه وتوارت خلفَ عجز المتابعة كلماته ولم يستطع أن يتمّ بضع جملٍ بغير لحنٍ جليّ.
إنّ أكثر ما يحتاجه النّاس اليوم في علاقتهم مع اللّغة العربيّة هو تقوية اللسان بها بحيث تغدو سهلةَ المنال يسيرةَ الجريان سائغةَ اللّفظ محبّبةً إلى القلب قريبةً من النّفس ويشعر المتحدّثُ بأنّها أقدرُ من اللّهجات على التّعبير عن مكنونات عقله وخلجات قلبه.
وهذه آليّاتٌ عمليّة تصلحُ مفاتيحَ لتقوية اللّسان باللغة العربيّة وتيسيرها في أحاديث الحياة.
لا شيءَ قبلَ القرآن الكريم
وغني عن القول أنَّ القرآن الكريم هو أعظم سندٍ للّسان العربيّ في رحلته اللّغويّة، وهو المرجع الأوّل في ترجيح الأفصح والأبلغ من كلمات العربيّة عند التّنافس فيما بينها، فمن أرادَ أن يتقوّى بالعربيّة لسانه وتستقيم على الجادّة فصاحته؛ فلا غنى له طرفة عينٍ عن القرآن الكريم.
إنَّ التّعامل مع القرآن الكريم في إطار تقوية اللّسان يكون على مسارين اثنين: التّرتيلُ اليوميّ، والحفظُ مهما كان يسيرًا.
على أن يصاحب ذلكَ قرارٌ بعدمِ تجاوز كلمة يتمّ ترتيلُها دون معرفة معناها اللّغويّ، وهذا يتحقّق باعتماد مصحفٍ بهامشه معاني الكلمات.
ثانيًا: قراءة النّصوص النّثريّة
والمقصود بالنّصوص النّثريّة؛ الأحاديث النبويّة، والنصوص الأدبيّة قديمةً وحديثة، والقصص والرّوايات والمسرحيّات والمقالات وغير ذلك من كلام الفصحاء والبلغاء.
ومن أجل التّركيز بشكلٍ أكبر فسأقترحُ عناوين على سبيل المثال لا الحصر، ويمكن للمرء اختيار غيرها دون أدنى غضاضة.
في الحديث النبويّ كتاب "رياض الصّالحين" على أن تكون النّسخة مضبوطةً بالشّكل.
وفي النّصوص الأدبيّة كتاب "مختارات من أدب العرب" لأبي الحسن النّدوي.
وأمّا الرّوايات والقصص فالمهمّ أن تكون لأدباء عرب مشهود لهم بالبلاغة والفصاحة وألّا تكون من المترجمات.
أهمّ شيءٍ في قراءة هذه النّصوص ألّا تكون القراءة صامتة، ولستُ أدري لماذا اعتاد المدرّسون تلقين طلّابهم فضيلة القراءة الصّامتة وإغفال بل تشويه القراءة الجهريّة كما لو انّها رجسٌ من عمل الشّيطان.
إنَّ المهمَّ أن تكون القراءةُ جهريّةً تسمعها الآذان بلا تعب، ويتحرّكُ بها اللّسانُ بلا وجَل.
فاقرأ كلّ يومٍ حديثًا من رياض الصّالحين، ونصًّا من مختارات النّدوي، وصفحةً من رواية أديب عربيّ؛ وليكن كلّ ذلك جهرًا.
ثالثًا: تصالَح مع المعجم
لم تشهد مصنّفاتٌ في اللّغة العربيّة ظلمًا كالذي شهدته المعاجم في تقزيم مهمّتها واختزال وظيفتها.
إنَّ أهمَّ ما صُنّفت المعاجم لأجله هو تنمية الثّروة والذّائقة اللّغويّة؛ فلذلك ينبغي أن تُقرَأ على مهلٍ كما يُقرَأ أيّ كتاب.
وكم هو مهين للمعاجم ألّا يتمّ سحبها من الرّفوف إلّا لمعرفة معنى كلمةٍ عابرةٍ لدقائق كلّ فترةٍ ثمّ تُعاد لترتصفَ مهملةً بحسرتها.
فمن أراد للسانه أن ينهل من بحر اللّغة بسلاسةٍ فعليه بالمعاجم، ومثل المعاجم في أهميّة ذلك كتبُ فقه اللّغة.
اجعل لك وِردًا يوميًّا بقراءة ثلاث صحائف من معجم تختارُه أنت، والأفضل ألّا يكون الابتداء بالمعاجم الكبيرة، فاختر واحدًا من هذه المعاجم لتبدأ به؛ "معجم مقاييس اللّغة" لابن فارس، أو "القاموس المحيط" للفيروزآبادي، أو "مختار الصّحاح" للرّازي.
وكذلك اقرأ في كلّ يومٍ صحيفةً واحدةً من كتاب "فقه اللّغة" للثّعالبي، والمهمّ في هذا كلّه أن تكون قراءتُك جهريّة.
رابعًا: عليكَ بالشّعر
أمَّا الشّعر فلا يستغني من أراد تقوية لسانه عن السباحةِ في بحوره، والغوص في خيالاته؛ فهو الذي يحلّق بالمرء على جناح الخيال والصّورة فيمنحُ الفكرَ بساتين واسعةً من الكلمات والتعابير.
اجعل لك وقفةً يوميّةً مع الشّعر، واختر شعراء قدامى ومعاصرين ممّن سهلت لغتهم وانسابت عباراتُهم.
اختر قصيدةً واقرأ منها خمسة أبياتٍ لا أكثر كلّ يوم، واحفظ بيتًا واحدًا من هذه القصيدة؛ وهذا يسيرٌ لمن يسّره الله عليه.
ومع قراءتك للأبيات جهرًا كما هو مطلوب، فدعني أقول لكَ على الهامش:
حذارِ أن تقرأ الشّعر أو نصوص النّثر قراءةً تجويديّة، بحيث تحقّق مخارج الحروف وتتكلّف الغنّة وتطبّق الإدغام في حديثك؛ صدقني هذا بشع للغاية في الشّعر والحديث العاديّ وليسَ من الفصاحة في شيء.
خامسًا: كن صيّادًا ماهرًا
كلّ ما تكتبُه فهو صيدٌ تحوزُه، وكلّ ما توثّقه بقلمك وتقيّدُه بخطّك فهو غنائم تتراكم مع الأيّام لتغدو خيرًا وفيرًا.
والصّيد الذي يحوزه المرء في يومه على ثلاثة أقسام، وحتّى لا يفلت منك هذا الصّيد فليكن معك دفتر جيبٍ حيثما كنت أو افتح ملفًّا للصّيد على هاتفك الجوّال وقسّمه إلى الأقسام الآتية:
القسم الأوّل: صيد الكلمات
سجّل فيه كلّ كلمةٍ جديدةٍ تسمعها من لغة العرب، وإن لم تعرف معناها فاجعلها وظيفة لك لاستخراج معناها وتسجيله؛ المهمّ ألّا تدعها تمرّ.
القسم الثّاني: صيد الخاطر
سجّل فيه كلّ فكرةٍ أو جملةٍ تخطر لكَ وتلمع في ذهنك، وأنت في الشّارع أو في الحافلة أو في أيّ مكان، لا تؤجّل تسجيل العبارة أو الفكرة التي انقدحت في عقلك حتّى لا يضيع صيدك فتحاول له استذكارًا فلا تستطيع.
القسم الثّالث: صيد الذّكريات
احرص أن تكتب في ختام كلّ يومٍ سردًا لأهمّ ما فعلتَه في يومك، ولا تترك هذه العادة مهما شعرت بأنَّ التّفاصيل مكرورة ومملّة، وستجد أنّ قدرتك التّعبيريّة تطوّرت مع الأيّام وغدت العربيّة أقرب أليكَ يومًا بعد يوم.
سادسًا: لا تزهد بأذنَيك
من أهمّ ما يقوّي اللّسان هو ما تسمعه الأذنان، فاحرص على سماعٍ يوميّ لفصيح اللّغة؛ سواء كان المسموع كتابًا أو نصًّا أدبيًّا أو قصيدةً أو شعرًا مُغنّى.
واحرص كذلك على استماعٍ منهجيّ للحوارات الفصيحة التي تفيض بها الأعمال الفنيّة أفلامًا ومسلسلاتٍ ومسرحيّات.
وهذا الاستماع إلى جانب ما يعطيه للّسان من ثروةٍ لغويّةٍ؛ فإنّه يفتحُ للمرء أبوابًا في أساليب الحوار ويغذّي البديهة اللّغوية لتكون حاضرةً في المواقف المشابهة.
ختامًا
هذه الآليّات العمليّة تحتاجُ إلى قرارٍ حقيقيّ ينبعُ من داخل المرء قبل كلّ شيءٍ ليستطيعَ الإقبالَ عليها.
وأهمّ من الإقبالِ أن تكون هناك مواظبةٌ على فعلها، فتقوية اللّسان باللّغة العربيّة حصيلةُ جهدٍ تراكميّ؛ يحتاجُ قرارًا حازمًا وعزيمةً صادقةً وإقبالًا شغوفًا ومواظبةً ثابتة وجهدًا دؤوبًا وجماعُ ذلكَ كلّه توفيقُ الله تعالى وإعانته.
أضف تعليقك