• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم محمد منير - عضو نقابة الصحفيين المصرية

الكلمة الحلوة صدقة، هل هناك من يعترض؟ لا أعتقد، ولكن الحقيقة المؤلمة أن الكلمة الحلوة سلاح ذو حدين، إما أن تكون نعمة أو نقمة، أو مدخلا لأيام سوداء.

يقول الحكماء إن الكلمات لا تؤخذ بأشكالها أو بظاهرها ولكن بمحتواها وباطنها، وكثيرا من الشعوب عاشت مخدوعة بمعسول الكلام والوعود المشفوعة بأدب واحترام، حتى استيقظت والخراب يحيط بها والأغلال تدمي معاصمها.

مر الكلام ومعسوله
ومر الكلام المغلف بمعسول الألفاظ له في الحياة المصرية أشكال طريفة، يتعايش معه المصريين ويتحملون مروره بسخرية تقيهم ألامه.

في رحلاتي الكثيرة في سوق العمل، كنت فيها كلها أعمل مرؤوساً ولم أكن أبدا رئيسا، وكان معظم رؤسائي من المستبدين، أصحاب النفوس المهترئة والنفسيات المدمرة الذين يخشون المرؤوس المطلع على تاريخهم أو الكاشف لنقاط ضعفهم، وللأسف كنت من هؤلاء بحكم كوني سياح في أعماق وتفاصيل الواقع، فقد كانت هذه هوايتي التي تلائم مزاجي والتي كانت أيضا سببا في شقائي، واذكر أن واحدا منهم عندما كان يناديني باسم دلع افتكسه لي قائلا: «يا موني» منغما الكلمة في تمايل وارتخاء مريب، كنت أتيقن أن هناك مصيبة وظيفية مقبلة، وأذكر أيضا أنها كانت آخر نداء رقيق سمعته منه قبل إبلاغي بإنهاء خدمتي في العمل.

صديق مقرب يروي لي أن زوجته عندما تناديه بصوت عذب وتنغم اسمه فمعنى هذا أن هناك كارثة مقبلة، ولما سألته كيف وصل له هذا المعنى، ـ قال: إن هذا النداء الناعم معناه أنها ستطلب طلب باهظ التكلفة أو الجهد، فإن استجبت غرمت غرامة كبيرة، وإن لم أستجب عشت أياما سوداء طويلة.

الفلكلور المصري رائع لما فيه من محددات فارزة للسلوك، لهذا لا يستقبل أي سلوك أو موقف أو كلمة بسياق واحد، فللكلمة الواحدة أو الموقف الواحد عدة سياقات تتنوع معانيها، فمثلا عندما يتحدث شخص مستقيم بأدب، يصف المصريين أدبه بأنه أدب أصيل نابع من أنه ابن أصول، وعندما يتحدث الكذوب بأدب يصف المصريون أدبه بأنه أدب القرود أو أدب الخدم الفلبينين (هذا مجرد مثل توضيحي لا أقصد الإشارة به لأحد).

المتابع لأداء بعض الحكام المستبدين يلاحظ بسهولة أنهم يعتمدوا في حكمهم على الكلمات المريحة والجمل والدعايات والإعلانات عن إنجازات غير مرئية أو مشروعات غير ذي عائد على غالبية الشعب من الفقراء والمطحونين حياتيا، المهم أنه مُصاغ بكلمات ناعمة رقيقة وبما لا يغضب الله (على حد قولهم)، وهي كلمات ذات مظهر فخيم مبتهج حنون رائع، ومضمون فارغ خاوي يخفي وراءه نوايا خبيثة، ومبررات ملتوية لسلوكيات ذات ملامح سادية.

منتدى التمكن من الشباب
لنقترب بضعة خطوات من الواقع، وأريد أن أتوقف عند المنتديات الدولية للشباب التي يتبناها چنرال مصر، تحت راية وشعار وهدف من كلمتين «تمكين الشباب».

«تمكين الشباب» يا سادة هدف سامي ورائع لا يختلف عليه اثنان في أي زمان وفي أي مكان، ولكن كما قلت في مقدمة المقال الكلمات تتحدد بمحتواها وليس بظاهر حروفها، فاتجاه المصطلح نحو تمكين الشباب بتوفير كل سبل الحياة الكريمة لهم وتوفير مناخ الحرية والعدالة الاجتماعية لضمان مشاركة وإبداعات شبابية دون ضغوط أو إرهاب أو وصايا، ولضمان تداول القيادة المجتمعية بين الأجيال من كل فئات المجتمع المدني، يختلف عن اتجاهه نحو تضليل الشباب وبدلا من تمكين الشباب نحاصره في شبكة تمكن النظام الفاشي منه، وهناك فرق كبير بين تمكين الشباب والتمكن من الشباب.

مؤامرة الدولة العميقة
وللأسف هذا التداخل المرتبك المتعمد بين هدف تمكين الشباب، وهدف التمكن من الشباب، بدأ مبكرا ومن خلال خطة بارعة بدأت عقب ثورة عام 2011 وضعها عسكر الدولة العميقة فكان الشرك الذي وقع فيه معظم المصريين وهم مشغلون بالسعي في مضمار الثورة نحو حلمهم بالحرية والعدالة الاجتماعية، فما حدث أن استوعبت القوى الفاشية الشباب بمعسول الكلام والانحناء أمام الثورة والتعظيم الإعلامي المبهر للعناصر الشبابية، بل رفعت رموز العسكر يدها بالتحية لشهداء الثورة، ووقع الشباب في شرك معسول الكلام، وما تلاه من وقيعة بينهم وبين أجيال المعارضة السابقة ليفصلوهم عن امتدادهم الطبيعي وجذورهم، حتى استلقت العناصر الفاشية على مصطبة الحكم واستولت عليه بفعل المؤامرة فنكلت بشباب الثورة المخدوع وطاردتهم وحاصرتهم والقت بمعظمهم في السجون.

كانت هذه هي المرحلة الأولى من خطة عسكر الدولة العميقة والتي تمت تحت شعار تمكين الشباب، أما الجنرال المستلقي على مصطبة الحكم في راحة المطمئن لنتائج مؤامرته، بدأ المرحلة الثانية لتثبيت حكمة تحت نفس الشعار المخادع «تمكين الشباب، وبينما شباب الثورة الذين يحملون رؤى ثورية مدروسة للنهوض بالوطن في السجون، بدأ الجنرال في الدفع بعناصر شبابية بعيدة كل البعد عن واقع الوطن وهمومه ليشكل منهم عناصر طيعة لمسرحيته أمام العالم من خلال المنتديات الشبابية الدورية، والتي يغلب عليها طابع الاستعراضات الفنية، وتقدم للعالم صورة زائفة عن الواقع المصري وهمومة، في محاولة لتصدير صورة مثالية غير حقيقية عن المجتمع المصري.

خلل المكون الحضاري
في مرحلة الدراسات العليا درست «كورس» اسمه الحضارات وكان من ضمن ما درسته أن من ضمن الوسائل التي تسرع بتدمير أي مجتمع أو حضارة أو ثقافة هو إحداث خلل في تناغم المكونات الحضارية، وتفسير ذلك أن تقوم بتعظيم مكون من مكونات المجتمع بما لا يتناسب مع نمو المكونات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كأن تقوم بافتتاح سوبر ماركت فيه أفخم الأغذية والأجهزة في قرية أغلب أهلها يعيشون في ظروف قاسية ومساكن بائسة ويعانون من فقر وجوع، هنا ستكون نتائج افتتاح هذا المشروع سلبية للغاية وستسير بهذا المجتمع تجاه الفوضى والدمار والعنف، وهذا تماما ما يفعله الجنرال عندما يصدر للشعب في خطابه أنه شعب فقير ويحيط به العوز والحاجة، ويقيد المجتمع بالضرائب الباهظة والأسعار المرتفعة للخدمات الأساسية، ويعاني قطاع كبير من الشباب من البطالة والمرض والجوع والجهل وفقدان الأمل، ويدفع بالقطاع الواعي الراغب بالتغيير من الشباب إلى السجون، بينما في ذات الوقت يقيم منتديات شبابية عالمية ومهرجانات مبهرة ومؤتمرات تناقش قضايا أقل وصف لها بالنسبة للجوعى والمرضى والمحبطين أنها رفاهية مبالغ فيها، وينطبق عليها المثل المصري المشهور «مالقيوش العيش الحاف ياكلوه، جابوا عبد يلطشوه»

لاعجائب التوصيات
فإذا قرات توصيات المنتدى الأخير وأنت جالس في مقعد من مقاعد الأغلبية المطحونة ستشعر بمدى العبث الذي فرضه نظام الجنرال على المجتمع المصري.

تنص توصية من التوصيات على «إطلاق مبادرة أفريقية للتحول الرقمي والتميز الحكومي، بالتعاون مع «معمل الأمم المتحدة الأفريقي لرعاية الإبداع التكنولوجي والاتحاد الأفريقي».

وفي مقابلها يعاني معظم المجتمع المصري، الذي نظم المنتدى، من رداءة الخدمات التعليمية وفسادها وتسرب الأطفال من التعليم والدفع بهم إلى أتون عمالة الأطفال المبكرة بما يحمله من بشاعة وضياع.

وتوصية أخرى نصها «إنشاء منصة إلكترونية عربية أفريقية للمرأة، تَتَضمن مكتبة رقمية لكل الدراسات والأوراق البحثية والتقارير الخاصة بالمرأة، وإبراز المبادرات النسائية الناجحة وتعميمها، ودعم سبل تمويلها.»، بينما تعاني المرأة المصرية من تدهور صحي شديد نابع من المعاناة والجهد الذي تبذله للحفاظ على أسرتها نتيجة ضيق ذات يد عائل الأسرة ولمواجهة النتائج المترتبة على ذلك من عدم توافر المقومات الأساسية للمعيشة الكريمة، ويضاف إلى ذلك ارتفاع تكلفة العلاج وعدم توافر الرعاية الصحية، كما أن هناك قطاعا من النساء يعيش ماسي شديدة نتيجة غياب عائل الأسرة في السجون والمعتقلات، أو الاختفاء القسري لابن من أبنائها.

ومن ضمن التوصيات توصية هذا نصها «الدعوة لإنشاء اللجنة الأورو متوسطية لمكافحة الكراهية على الفضاء السيبراني، لتعمل على دراسة مقترحات لمكافحة خطاب الكراهية والتطرف والتنمر على مواقع التواصل الاجتماعي بما يتوافق مع المعايير الدولية، ودعوة الأمم المتحدة لتبني بروتوكول دولي لمكافحة خطاب الكراهية والتطرف والتنمر عبر وسائل الشبكة الدولية ووسائل التواصل الاجتماعي»!!!! وهي توصية عجيبة وذات نغمة نشاز عن الواقع المعاصر لتوقيت إقامة المنتدى والذي شهد عشرات من حالات الانتحار المعلن من شباب أراد بإعلان انتحاره أن يطلق صرخة احتجاج يسمع بها العالم رفضه للظلم والاستبداد والفقر المفروض عليه ورفضه للحياة غير الآدمية التي جعلته يفضل مغادرة الدنيا على البقاء فيها مقهورا مظلوما منتهكا.

هذه التوصيات التي تم إطلاقها تحت دعوى تمكين الشباب، بينما شباب مصر الجادين الواعيين بهموم أمتهم ملقون في السجون، هذه التوصيات ماهي إلا استخفاف بالشعب المصري وبألامه وهمومه، وتذكرنا بما قالته ماري أنطوانيت زوجة ملك فرنسا في مواجهة الثوار الفرنسيين» لا يجدون الخبز فليأكلوا الجاتوه»، وبصرف النظر عن أن المقولة هذه صادرة عنها أو مدسوسة عليها إلا أن الحقيقة الثابتة أنها وزوجها ملك فرنسا انتهى بهم غضب الشعب الفرنسي إلى المقصلة... لعلها عبرة لمن يعتبر

أضف تعليقك