• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. قطب العربي

مثّل مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد ما يعرف بفيلق القدس في الحرس الثوري، زلزالا مدويا في المنطقة. فسليماني ليس مجرد جنرال عادي، بل هو مهندس النفوذ العسكري الإيراني الخارجي الذي نجح في تحقيق حلم إمبراطوري قديم بهيمنة طهران على عدة عواصم عربية في زمن وجيز، من بيروت ودمشق شمالا، مرورا ببغداد، ووصولا إلى صنعاء جنوبا، وهو الاسم المرعب الذي يصيب من يسمعه بهلع وربما بالسكتة القلبية، بسبب قسوته المفرطة في تعذيب أسراه وجعلهم عبرة لمن يعتبر.

مقتل سليماني لن يمر مرور الكرام على إيران، فرغم أن الخصم في هذه الحالة هو أقوى دولة في العالم عسكريا واستخباريا واقتصاديا، إلا أن إيران (التي أعلنت الحداد وتنكيس العلم ثلاثة أيام) مضطرة للرد حفاظا على هيبتها مهما كلفها ذلك من ثمن. وقد هدد مرشدها الأعلى علي خامنئي بـ"انتقام عنيف ضد القتلة"، كما أعلن مجلس الأمن القومي الإيراني بعد اجتماع طارئ "أن المجرمين سيواجهون الانتقام القاسي في الوقت والمكان المناسبين"، "وأن الرد سيشمل المنطقة كلها".

إيران (التي أعلنت الحداد وتنكيس العلم ثلاثة أيام) مضطرة للرد حفاظا على هيبتها مهما كلفها ذلك من ثمن.
هذه التهديدات الإيرانية قد تجد طريقها للتنفيذ ضد مصالح أمريكية في العراق أو سوريا أو منطقة الخليج، أو ربما داخل الولايات المتحدة نفسها، وقد تتم بأيدي إيرانية بشكل مباشر أو عن طريق أذرعها المنتشرة في أماكن عديدة من حزب الله شمالا إلى الحوثيين جنوبا، وقد تستجلب ردا أكثر قسوة من واشنطن التي تعهدت بذلك بالفعل، وهذا يعني حربا شاملة بحرية وجوية ومعلوماتية.. إلخ، لكن الكثيرين يرون أن حربا لن تحدث بين الدولتين اللتين تدركان خطورة هذه الحرب، وتداعياتها، وبالتالي فإن الرد لن يتعدى عملا رمزيا ضد هدف أمريكي ثانوي، أو ربما بعض الأهداف الخليجية الكبرى التي لن تنزعج واشنطن من أجلها، ثم تحتفل إيران بردها المزلزل ويحتفي ترامب برأس سليماني التي ستكون جواز مروره في الانتخابات الرئاسية المقبلة (بدأت بعض العمليات الصغيرة بإطلاق قذائف مجهولة في المنطقة الخضراء وسط بغداد، وبإحدى القواعد العسكرية التي تضم خبراء أمريكيين دون وقوع خسائر، ويعتقد أنها من تنفيذ حزب الله العراقي الذي أسسه المهندس).

ما يهمنا في هذا الشأن هو تداعيات هذا الأمر على قضايا المنطقة الساخنة، سواء القضية الفلسطينية أو العراقية أو السورية أو اليمنية أو الليبية أو حتى المصرية، فالجروح التي تركتها إيران في المنطقة لا تقل عن الجروح التي تركها الأمريكان، والرغبة الشديدة في الهيمنة على المنطقة لا تقل عن نظيرتها الأمريكية، رغم أننا كنا ننتظر من إيران الدعم والمساندة باعتبارها دولة إسلامية وباعتبارها صاحبة الثورة الأم في المنطقة، لكن العكس هو ما حدث بانحيازها إلى جانب الثورات المضادة، حيث كانت سباقة إلى واد الثورة السورية، وصب البراميل المتفجرة على رؤوس السوريين وتهجيرهم من مدنهم وقراهم مبكرا لإنقاذ بشار، وكانت سباقة إلى وأد الثورة اليمنية، كما أنها عبر رجالها بقيادة قاسم سليماني؛ قتلت آلاف العراقيين وهجرت مئات الآلاف منهم في إطار سياسة التطهير العرقي، وانتشرت بصورة كبيرة قصص التعذيب البشع التي تتم في معسكرات الاعتقال التابعة لمليشياتها في العراق، كما أنها وقفت ضد حراك العراقيين ضد النظام الطائفي رغم أن غالبية المشاركين في الحراك من الشيعة. وفي لبنان استخدمت ذراعها حزب الله لتخويف اللبنانيين وفرض سياسات الحزب وحلفائه بقوة السلاح، وهو الحزب الذي كان من قبل حركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ونال بذلك دعما شعبيا عربيا وإسلاميا واسعا في عموم المنطقة والعالم، لكنه تحول الآن إلى حزب طائفي، ملتزم بتنفيذ السياسة الإيرانية في المنطقة.

القضية الفلسطينية هي القضية الوحيدة من قضايا المنطقة التي نالت دعما إيرانيا لا ينكر، فقد كانت طهران هي الدولة الوحيدة التي قدمت دعما عسكريا واضحا للمقاومة الفلسطينية، خاصة حماس والجهاد الإسلامي، ومكنتهما من تطوير منظومتهما التسليحية وخاصة الصاروخية بشكل كبير، في الوقت الذي أوصدت بقية الدول العربية أبوابها في وجه الفلسطينيين. لكن التعاطف الكبير والعزاء الحار الذي قدمته حماس بجناحيها السياسي والعسكري للقيادة الإيرانية في مقتل سليماني فتح عليها نيرانا صديقة لطالما وفرت لها الدعم المعنوي وحتى المادي منذ تأسيسها وحتى الآن، ذلك أن حماس وفي غمرة مشاعرها الجياشة تجاه سليماني (الذي أشرف بنفسه على تطوير منظومتها العسكرية) تجاهلت مشاعر ملايين الأشقاء الآخرين في سوريا والعراق واليمن الذين قتل سليماني ورجاله أبناءهم ورمل نساءهم وحرق أطفالهم.

من الطبيعي أن تسعى حماس لطلب الدعم والمساندة من أي مكان، ومن الطبيعي أن تعرف الفضل لأهله، ولكن من الطبيعي أيضا أن تحترم مشاعر الملايين من أشقائها الذين لم يبخلوا عليها يوما بالدعم المادي والمعنوي في حدود إمكانياتهم البشرية، والذين يعتبرونها جزءا منهم؛ يألمون لألمه ويفرحون لفرحه، إذن كان لزلزال سليماني تداعياته على الحاضنة الشعبية لحماس التي انقسمت بين متفهم أورافض لموقفها وعزائها، بعد أن كانت هذه الكتلة صفا واحدا خلفها، كما أن هذا الموقف الحمساوي دفع البعض للتفكير بطريقة براجماتية أسوة بحماس نفسها، بمعنى التفكير في قضاياهم الوطنية ومنحها الأولوية على حساب أي قضايا أخرى، بما في ذلك القضية الفلسطينية التي لم تعد القضية الوحيدة للشعوب العربية والإسلامية، بل أصبحت هناك قضايا أخرى تزاحمها الآن، مثل القضية السورية والعراقية والليبية واليمينة وحتى المصرية، وأصبح البعض يشعر بأن واجبه أن يركز جهده في قضيته أولا، ولا يربط نفسه بقضايا أخرى، وهو شعور جد خطير على مستقبل المنطقة.

كم كنا نأمل أن تكون إيران جزءا من كتلة إسلامية صلبة قادرة على المساهمة في تحقيق النهضة الشاملة ورد الاعتبار للعالم الإسلامي عموما، وحل مشاكله ونزاعاته الداخلية، وعدم السماح باي تدخلات أجنبية في شؤونه. وكم كنا نتمنى أن تقطع الطريق على الأعداء المتربصين بأمتنا، والذين يبثون فيها الفتن الطائفية والمذهبية لتفتيتها ليسهل لهم الهيمنة التامة عليها. وكم كنا نود أن تكون داعمة لثورات الربيع العربي باعتبارها صاحبة الثورة الأم، لكن كل تلك التمنيات نسفتها سياسات رعناء لا تزال تحمل وتعمل للحلم الإمبراطوري الإيراني، سواء بواجهة قومية فارسية أو بواجهة إسلامية مذهبية.

 

زلزال سليماني زحزح التوتر المصري التركي في ليبيا إلى الخلف قليلا، ورغم أن طبول الحرب تقرع بشدة في القاهرة تهيئة وحشدا للشعب خلف السيسي وعصابته تحت شعارات وطنية زائفة، ورغم أن البرلمان التركي وافق بأغلبية كبيرة على تفويض الرئيس أردوغان في تقديم دعم عسكري إلى ليبيا، إلا أن انشغال الولايات المتحدة بأزمتها مع إيران، يدفعها لضغط على "صبيانها" في المنطقة، ومنهم آل نهيان، لعدم فتح جبهات أخرى ريثما تنجلي الأمور في منطقة الخليج.

رغم دعوات الثأر لسليماني التي تتصاعد في طهران، إلا أن ذلك لا يعني أن الرد سيكون عاجلا، وقد تجري تفاهمات تحت الطاولة تقدم لإيران بعض الحوافز التي تسكتها عن الرد على أهداف أمريكية، والاكتفاء ربما بأهداف خليجية، وهو ما يعني أن العرب هم الذين سيدفعون فاتورة هذا الصراع كالعادة.

أضف تعليقك