بقلم: صادق أمين
لما اجتمع مالك بالشافعي- رحمهما الله- قال له: إني أرى الله تعالى قد ألقى عليك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.. ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجوه منها سواد، بحسب قوتها وتزايدها، فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ، فامتلأ القبر ظلمة، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ هذه القبور ممتلئةٌ على أهلها ظلمة، وإنَّ الله عز وجل ينورها بصلاتي عليهم" (خرَّجه أحمد).
ومما يُذكر عن عبد الله بن المبارك- رحمه الله- قوله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يُورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وأكد الحسن البصري- رحمه الله- هذا بقوله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إنَّ ذل المعصية لا يُفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
وقد تحدَّث كثير من سلفنا الصالح عن عاقبة المعصية وآثارها في العبد، تحذيرًا للسائرين منها، وتخويفًا لهم، وتأكيدًا على ضرورة اجتنابها، ومن هؤلاء الإمام محمد بن أبي بكر الزرعي- رحمه الله- في كتابه القيم (طريق الهجرتين، وباب السعادتين) فقد أشار إلى أنَّ علم السائر بعاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ بسببها، يدفعه إلى تركها، ويحجزه عن الوقوع في شباكها، فذكر مجموعة كبيرة من هذه الآثار منها:
سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وألمه، وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته، والحيرة في أمره، وتخلي وليّه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعدًا له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أو ضعفه ولا بد، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد، فإنَّ الذنوب تميت القلوب.
ومنها ذلة بعد عزة، ومنها أنه يصير أسيرًا في يد أعدائه، بعد أن كان ملكًا متصرفًا يخافه أعداؤه.. ومنها أن يضيع تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته، ولا في الخارج، فلا رعيته تطيعه إذا أمرها، ولا ينفذ في غيرهم.
ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءةً، ومنها زوال الأُنْس وحلول الوحشة مكانه، وكلما ازداد إساءةً ازداد وحشةً، ومنها زوال الرضى وحلول السخط بدله.
ومنها زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه، والإيواء عنده، واستبدال الطرد والبعد منه، ومنها وقوعه في بئر الحسرات، فلا يزال في حسرةٍ دائمة، كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها، إن لم يقضِ منها وطرًا، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه، وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه.. فيا لها من نارٍ قد عُذِّب بها القلب في هذه الدار، قل نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.
ومنها فقره بعد غناه، فإنه كان غنيًا بما معه من رأس مال الإيمان وهو يتجر به، ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سُلِب رأسماله أصبح فقيرًا معدمًا، فإما أن يسعى بتحصيل رأسمال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير، وإلا فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأس ماله.
وهذه في مجموعها سبب رئيس في موت القلب، حين يفقد الأمن وتزول عنه الطمأنينة والأنس، والرضى، وتسيطر عليه الحسرات، والفقر والوحشة والندم، وسلسلة العقوبات المترتبة على ارتكاب المعاصي تطول، وقائمتها تتنوع، وفي الأسبوع المقبل نكمل ما أشار إليه الإمام الزرعي الدمشقي- رحمه الله-.
ومنها نقصان الرزق، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، قال- صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه" (أخرجه ابن ماجه وأحمد).
ومنها زوال المهابة والحلاوة التي لبِسها بالطاعة، فتبدل بها مهانة وحقارة.
ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.
ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذي لا عِوضَ منه، ولا يعود إليه أبدًا، وضياع الوقت يعني ضياع الحياة كلها، فالوقت هو الحياة، ومن خسر وقته خسر رأس ماله، وفقد أصل وجوده، وأساس بنيانه.
ومنها الطبع والرين على قلبه، فإنَّ العبد إذا أذنب نُكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنبًا آخرًا نكت فيه نكتة أخرى، ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران.. قال تعالى: ﴿كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين: 14).
وهنا فإنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة، ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإنَّ الطاعة تُثمر هذه الثمرات ولا بد.
وقد قال ابن القيم- رحمه الله- في كتابه القيم (الداء والدواء): "لو لم يكن للذنب عقوبة إلا أن يُصد عن طاعة تكون بدله، وتقطع طريق طاعة أخرى، فينقطع عليه بالذنب طريق ثالثة، ثم رابعة وهلم جرَّا، فينقطع عنه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير له من الدنيا وما عليها، وهذا كرجلٍ أكل أكلةً أوجبت له مرضة طويلة منعته من عدة أكلات أطيب منها".
فالذنب يستدعي ذنبًا آخرًا، ثم يقوى أحدهما بالآخر، فيستدعيان ثالثًا، ثم تجتمع الثلاثة، فتستدعي رابعًا، وهلم جرَّا، حتى تغمره ذنوبه، وتحيط به خطيئته.. فمن ثواب الحسنة الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، كما أكد ذلك سلفنا الصالح.
وبهذا يفوته ما هو أحب إليه، وخير له منها، من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا، ولذة ما في الآخرة، ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ (الأحقاف: 20)، فالمؤمن لا يُذهب طيباته في الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة، وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة، فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا.
والذنوب تمنع القلب من ترحله من الدنيا، ونزوله بساحة القيامة، فإنَّ القلب بسببها لا يزال مشتتًا مضيعًا، حتى يرحل من الدنيا، وينزل في الآخرة، فإذا نزل فيها، في دنياه، أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أطرافه وقضاء جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده.. وما لم يترحل إلى الآخرة، ويحضرها، فالتعب والعناء والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة.
ومن أشدها خطرًا، وأعظمها مصيبة، وأنكاها جرحًا، إعراض الله وملائكته وعباده عنه.. فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله، واشتغل بمعاصيه، أعرض الله عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأقبل بقلوب خلقه إليه.
وبهذا فإنه يخرج من حصن الله- الذي لا ضيعة على مَن دخله- فيخرج بمعصيته منه، إلى حيث يصير نهبًا للصوص وقطاع الطريق.. فما الظن بمَن خرج من حصنٍ حصين، لا تدركه فيه آفة، إلى خربة موحشة هي مأوى اللصوص وقطاع الطريق، فهل يتركون معه شيئًا من متاعه؟!!
وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علمًا، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علمًا، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته.
أضف تعليقك