• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم عامر شماخ

قابلتُه- قدرًا- بعد ست سنوات من الغياب؛ منذ وقوع الانقلاب العسكرى، ولم أكن أعرف له أرضًا ولا سكنًا؛ إذ اختفى فجأة ولم يصلنى حينها سوى أن المجرمين زاروا بيته فى غيابه، وروّعوا زوجته وأبناءه، وكسّروا وبعثروا وعاثوا كما يفعل الهمج. أما ما لم أعرفه وقصّه علىّ؛ فهو أن أحد جيرانه قد أبلغ عنه مدّعيًا إيواءه لبعض «العناصر الإرهابية!!»، وقد اتضح -بالطبع- كذب هذا الجار الذى لصاحبنا أياد بيضاء عليه وعلى أهله وأبنائه.

وقد واسيت الأخ الذى قال إنه يعانى أشد معاناة، خصوصًا بعد فصله من عمله على أثر بلاغ هذا الجار المأفون، وأثبتُّ له: كما أن هناك «أنذالًا» فقدوا الإنسانية والمروءة؛ هناك «رجال» بكل ما تعنيه الرجولة، ساندوا الحق ودعموا أهله، وامتدت أياديهم المعطاءة إلى المحتاجين ممن ظُلموا وتقطعت بهم السُبل.

ويؤسفنى القول إن هناك حالات لا تُحصى لمثل هذه «النذالة»، وقعتْ بعد الانقلاب، من أهل وأقارب وجيران، نسوا الرحم والنخوة، وخاضوا خوض الشيطان، ومن بينها قصص مبكية تدل على دناءة وخراب نفسى كبير، فى مقابل مواقف تؤكد أن الخير لم يغب عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا كان ثمة غادرون فهناك أوفياء مضحون، ولم نستطع التفرقة بين هؤلاء وهؤلاء إلا بعد الانقلاب الدموى الذى ميز السوى من الإمعة، والعظيم من الحقير، وسوف تكشف لنا الأيام عن هذه الحالات ومآل أطرافها.

ومن يطالع التاريخ، قديمًا وحديثًا، يجد هذا الخلق الوضيع؛ حيث لم تخلُ منه أمة يحكمها الاستبداد، وقد تفشى فى المصريين عقب انقلاب 1952، حتى عُرفت الأجيال التى عاصرت هذه الحقبة بـ«جيل النكسة»، وفى اعتقادى أن المسمى لا يرتبط بما يُعرف بـ «نكسة 1967»، إنما يُقصد به النكسة القيمية العامة التى فسّخت المجتمع وأصابته فى خُلقه، وتمثلت –بشكل واضح- فى خشية السلطة أشد من خشيتهم لله؛ ومن ثم الانحياز إلى باطلها -وهى تعلم أنه باطل- حتى ألفت هذه الحالة من الخضوع لرغبات الفاسدين؛ فسمعنا عن الأب يبلِّغ عن ابنه فتكرمه الدولة، وتراقب الأخت أخاها والزوجة زوجها.. ولا يزال الخوف متفشِّيًا حتى سادت أمثلةٌ باطلةٌ نسمعها إلى اليوم؛ أُطلقت للتبرير ولكفِّ النفس عن الإصلاح الحقيقى والخلاص من تلك الرذائل، منها: «من خاف سلم»، «عيش ندل تموت مستور»، «اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى»!!

عندما يجبر الاستبداد الناس على الولاء له ومعاداة خصومه -رغم فساده وتبعيته وفشله- إنما يشوّه فطرتهم، ويفسد ضمائرهم؛ ولذا فإنه ما من شعب وقع تحت أنياب الديكتاتورية إلا ظهرت فيه أسوأ الصفات وأحط الأخلاق؛ والجبن هو السمة الأبرز، وهو منقصة للرجل ودونية مخلّة بكرامته؛ ألا ترى الجبان جُبل على التردد والميوعة، والعيش فى قلق وتربُّص، ومع كل صيحة يسارع إلى الخنوع والخيانة؛ منكرًا خيرًا قُدم له أو برًّا أُسدى إليه؟

أذكر -وكنت حاجًّا فى موسم عام2001- أنى التقيت بالفندق مجموعة من الإخوة الليبيين، ودار حوار باسم بينى وبينهم؛ فلما تطرقت إلى السياسة وذكرت اسم «القذافى» هبَّ كبيرهم واقفًا طالبًا منهم عدم الاستماع إلىَّ. غادرونى بشكل مريب وأنا آسفٌ على حالنا وحالهم، وكيف أن أحفاد «المختار» يخشون هذا المعتوه وهم على بُعد آلاف الكيلو مترات منه، وعجبتُ لما صنعه الاستبداد والغشم السياسى بنا وبهم.

والإسلام برىء من مساوئ الأخلاق، ومن كل صفة تذهب بشرف الرجل، وقد نعى- كثيرًا- على أقوام الأنبياء عدم اتباعهم هؤلاء الرسل، مقلدين آباءهم وأقوامهم، كأن فى آذانهم وقرًا أو على أعينهم غشاوة، داعيًا إلى حرية الفكر، والانفتاح، ومحاربة كل قيد يحول دون قول الحق وتقويم الاعوجاج. والمقام لا يتسع لبسط شواهد القرآن الكريم، ونكتفى بالإشارة إلى ما جاء فى سورة يوسف من حوارات وقصص دارت بين الأخ الصالح وإخوته المخادعين، ومآل كل حزب من الحزبين، وأن العاقبة لمن اتقى وصبر، وأن الخسران والبوار على من غشَّ وغدر.

والسُّنَّةُ كذلك حافلة بالنواهى عن مواقف الشبهات والظُنَّة، آمرةً باتباع الحق وعدم هيبة الباطل مهما كثر أتباعه وعمّت شهرته، يقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: «لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن: وطِّنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم»، وهذا الحديث درسٌ للمغيبين التابعين الذى يعيشون عيشة العبيد، ويسلمون قيادهم لغيرهم، فلا يهنئون بما يهنأ به الأحرار، ولا يذوقون ما يذوقه ذوو المروءات.

وفى تاريخ الأمم؛ الحاكمُ الحرّ ينتج أحرارًا لا يقبلون الضيم ولا يعرفون اليأس، والعكس فى النظم المستبدة الفاسدة؛ فإنها لا تخرج إلا نكدًا مثلها، والناس على دين ملوكهم؛ من أجل ذلك لا بد من النضال لمنع الاستبداد حتى يطهر المجتمع من  هذه الرذائل. لما ولى عمر قال فى خطبة الخلافة: «إذا أحسنت فأعينونى، وإذا أسأت فقومونى»، فقام إليه رجل وقال: «لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا»، فقال عمر: «الحمد لله الذى جعل فى رعيتى من لو اعوججت لقومنى بسيفه». ولو قيلت هذه العبارة الآن لواحد ممن يحكموننا لقتل الرجل وأهله ومن يمتُّ له بصلة، وهذا هو الفرق بين من قال: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا»، وبين من يقول: «يا نحكمكم يا نقتلكم!!».

أضف تعليقك