بقلم.. قطب العربي
لا ينكر أحد أن إيران قوة إقليمية مهمة، لها نفوذها ولها حضورها ولديها أدواتها، لكن المشكلة أن هذا النفوذ الإقليمي بقدر ما يمنحها مكانة دولية فإنه يخصم من رصيدها وسط بيئتها الطبيعية، والتي هي بيئة إسلامية بالأساس.
لا أحب الحديث بلغة طائفية، وأعرف أن دولا ونظما وأجهزة مخابرات إقليمية ودولية هي التي تغذي المشاعر الطائفية لحاجة في نفوسها بعيدة تماما عن اهتمامات أهل المنطقة، ولكن في الوقت نفسه لا أستطيع تجاهل أن التمدد الإيراني في المنطقة ينطلق أساسا من مفاهيم طائفية، حتى وإن كانت محض غطاء ديني لتغطية أهداف سياسية استراتيجية أخرى.
إيران التي فقدت الأسبوع الماضي قاسم سليماني، وهو أكبر منفذ لمشروعها التمددي أيا كانت طبيعته، حرصت على أن تستثمر الحدث بشكل طائفي لتصنع من خلاله حالة اصطفاف شعبي كبيرة خلف القيادة الحالية التي تصاعدت الانتقادات لها والمطالبة بتغييرها، والتي تفجرت المظاهرات ضدها خلال تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر الماضيين، وكانت أحدث جولاتها بالأمس فقط بخروج مظاهرات وإن لم تكن كبيرة تهتف ضدها. كما أنها صنعت أذرعا طائفية في المنطقة، مثل الحشد الشعبي الذي تلوثت أيدي أفراده بدماء العراقيين، وجماعة الحوثي في اليمن، ومليشياتها في سوريا، وحتى حزب الله الذي ظهر في البداية كحزب مقاوم وغير طائفي لم يستمر طويلا بصورته تلك، فسواء بتصرف منه أو بضغط من إيران تحول الحزب إلى كيان طائفي أيضا، ولم يعد يقصر جهده على لبنان بل أخرج مقاتليه لدعم بشار الأسد ضد الثورة السورية، ودعم الحشد الشعبي في العراق ضد انتفاضة العراقيين. كما أن الساسة والمعلقين الإيرانيين البارزين الذين كانوا من قبل ينأون بأنفسهم عن الحديث الطائفي أصبحوا يفاخرون بهيمنة إيران على أربع عواصم عربية، وأنها في طريقها للهيمنة على عواصم أخرى.
إيران التي فقدت الأسبوع الماضي قاسم سليماني، وهو أكبر منفذ لمشروعها التمددي أيا كانت طبيعته، حرصت على أن تستثمر الحدث بشكل طائفي لتصنع من خلاله حالة اصطفاف شعبي كبيرة خلف القيادة الحالية
هذا التمدد الإيراني لم يتم بسلاسة، ولكن عبر بحور من الدماء التي تم سفكها على يد المليشيات الطائفية التابعة لها، وهذه البحور من الدماء باعدت كثيرا بين إيران ومحيطها، حتى وإن فرضت نفوذها بالقوة في تلك الدول الأربع. إذ لا تزال داخل هذه الدول مكونات رئيسية رافضة لها وتعتبرها قوة احتلال تنبغي مقاومتها، كما أن غالبية شعوب الدول الإسلامية الأخرى لم ولن تغفر لإيران هذه الجرائم بحق أشقائها، فلا يشفع لها دعمها المباشر لحركة المقاومة الإسلامية حماس أو حركة الجهاد؛ لأن هذا الدعم وإن كان مفيدا للحركتين ولا تلامان على تلقيه، إلا أنه يمثل جزءا من مشروع التمدد الإيراني الخارجي، كما يمثل نوعا من الدفاع عن الأمن القومي الإيراني وذلك عبر إشغال الكيان الصهيوني الذي يمثل خطرا دوما على إيران، وبالتالي فمن الأفضل لها نقل المعركة إلى عقر داره حتى لا يفكر هو في مشاغلة إيران وتشتيت جهودها، أي أن الدعم الذي تقدمه طهران للمقاومة الفلسطينية ليس من أجل سواد عيون الفلسطينيين، ولكنه لمصلحة الأمن القومي الإيراني نفسه، ولخدمة مشروعها التوسعي في المنطقة.
عقب الثورة الإيرانية في العام 1979 بذلت إيران بقيادة الخميني ومن بعده خامنئي جهودا نظرية كبيرة للتقارب مع السنة، وأنشأت دارا للتقريب بين المذاهب، وشارك قادتها الدينيين في حوارات التقارب جرت برئاسة الدكتور يوسف القرضاوي والذي كان مخلصا جدا للفكرة، لكنه صدم من المكر الإيراني الذي كان يتعامل مع هذه الفكرة باعتبارها مجرد باب للتمدد وليس للتقارب الحقيقي.
وشخصيا زرت إيران مرتين لتغطية انتخابات رئاسية وبرلمانية، وقد أشدت في كتاباتي وتعليقاتي بما يستحق الإشادة في التجربة، مثل النهضة الصناعية والتعليمية وتخصيص مقاعد برلمانية للأقليات لا ينازعها فيها أحد، ومنح مكانة لائقة للمرأة في المجال التشريعي والتنفيذي، وتطور المجال الفني بحيث حصدت إيران العديد من جوائز المهرجانات الفنية العالمية، ومثل التقدم العسكري والتسليحي، لكن كانت هناك مناطق مظلمة حرصت على نقل ملاحظاتي عليها للمسؤولين الإيرانيين الذين التقيتهم في ذاك الوقت، وكانوا يعدون بتعديل وحل تلك المشكلات، لكنها بدلا من ذلك تفاقمت مع الوقت.
تصاعد الخطاب الطائفي من أي جهة ليس في صالح المنطقة وليس في صالح الشيعة أو السنة
تصاعد الخطاب الطائفي من أي جهة ليس في صالح المنطقة وليس في صالح الشيعة أو السنة، وكم ساهم النظام السعودي في نشر ذلك الخطاب الطائفي وكم أنفق عليه من الملايين، ثم اتضح لاحقا أنه كان يفعل ذلك خدمة للسياسة الأمريكية وليس حماية للدين الإسلامي. والأمر ذاته ينطبق على إيران التي تسهم في نشر هذا الخطاب الطائفي الآن عبر الكثير من الأصوات الإيرانيىة وعبر السياسات أيضا، وكذلك عبر الأذرع الطائفية المنتشرة في العديد من الدول من آسيا إلى أفريقيا إلى أوروبا.. الخ.
تحتاج إيران إلى توظيف ما لديها من حكمة للاحتماء بأمتها الإسلامية في مواجهة الحصار الذي تتعرض له من القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والذي سيتصاعد بسبب إسقاط الطائرة الأوكرانية في طهران، وحتى تتحقق تلك الحاضنة الشعبية الإسلامية فإن إيران مطالبة بمعالجة الكثير من الجروح التي صنعتها في المنطقة، والشروع فورا في انتهاج سياسات غير طائفية، وكبح أذرعها الطائفية أيضا، والدخول مع العواصم الإسلامية الكبرى في صناعة تواققات لصراعات المنطقة تطفئ نيرانها، وتعيد السكينة إلى شعوبها، وتقطع الطريق على أعدائها. وهي قادرة (إن أرادت) على وقف الحرب في اليمن والشروع في مصالحة مجتمعية عاجلة بعيدا عن السعوديين والإماراتيين، وهي قادرة بالتعاون مع تركيا على إنهاء الأزمة السورية، فهل تفعلها إيران؟
أضف تعليقك