بقلم قطب العربي
لم يكن مفاجئا بالنسبة لي وللكثيرين عدم نزول المصريين إلى الشوارع والميادين في الذكرى التاسعة لثورة الخامس والعشرين من يناير، استجابة لدعوة الفنان والمقاول محمد علي. فقراءة بسيطة للمشهد تصل بأي عاقل إلى هذه النتيجة، لكن هذا الوضوح للمشهد لم يكن كافيا لإقناع صاحب الدعوة أو بعض من صدقوه ثم عبروا عن إحباطهم لاحقا.
لقد ظل الرجل يجزم بأن 25 كانون الثاني/ يناير 2020 هو آخر يوم للسيسي في الحكم، ويوهم الناس للاعتقاد بأن خلفه قوة تدعمه، وأنها حتما ستتحرك في هذا اليوم لدعم الحراك الشعبي والتخلص من السيسي، ورغم أنه ساق هذا الوهم من قبل في 20 أيلول/ سبتمبر من العام الماضي وصدقه الكثيرون، وخرجوا بالفعل، لكن الأيام أثبتت أن الرجل لم يكن على صلة بأي قوة داخل المؤسسة العسكرية أو الأمنية، ربما كان على تواصل مع بعض ضباط الجيش أو المخابرات المبعدين، لكن هؤلاء لا يمثلون قوة دعم حقيقية عندما يجد الجد. ورغم انكشاف الأمر في جولة 20 و27 أيلول/ سبتمبر إلا أن البعض ظل مصدقا أن هناك قوة خفية تقف خلفه، وهو ما يدل أن هذا البعض يدمن التفكير "التمنياتي" أو "الرغائبي" أكثر من التفكير الواقعي العقلاني.
لا أقول إن محمد علي خدع المعارضة، ولا أنه نصب على الشعب، ولا أنه عميل للنظام ستظهر عمالته لاحقا (فهذا أمر لا أعلمه)، ولكن كان واضحا أنه شخص بسيط لا يفهم حتى مفردات السياسة عموما، فما بالك بمفردات الثورة، وبمتطلباتها؟ لقد كان يتصور أن الدعوة عبر فيسبوك وحدها كافية لحشد الناس، ولا يعرف أن من يقرر النزول في هذا الأجواء القمعية لديه حسابات معقدة حتى يكون نزوله مؤثرا، وأن سجنه أو حتى قتله لن يكون بلا ثمن، ولذلك فقد نزل البعض في 20 أيلول/ سبتمبر ليس تلبية لمجرد الدعوة، ولكن لقناعة أن هناك جهة في الدولة تقف خلف صاحب الدعوة وتريد التخلص من السيسي. وهذا يعني أن المعادلة أصبحت مختلفة، وأن كفة قوى التغيير رجحت بهذه الجهة، التي ستستثمر هذا الحراك الشعبي للانقضاض على السيسي في قصره، وتخليص البلاد والعباد منه، لكن شيئا من ذلك لم يحدث. وربما توجد بالفعل مناكفات بين "الكبار" في العصابة الحاكمة حول اقتسام النفوذ، وربما كانت مؤشرات ذلك في الإقالات التي تمت لبعض كبار الجنرالات ثم إعادة بعضهم للمشهد لاحقا مثل محمود حجازي وأسامة عسكر، وإطلاق سراح سامي عنان، ولكن تلك المناكفات لم تكن حول الديمقراطية مثل أزمة آذار/ مارس 1954، ولكنها حول منافع ومزايا شخصية وتوزيع للغنائم مع استمرار الحكم العسكري القمعي للشعب.
لقد كانت ثورة يناير ولا تزال هي أعظم ما فعله المصريون عبر تاريخهم الحديث، وهي ثورة طاهرة تنفي خبثها، ولا يصلح أن يتصدى لحمل لوائها، والدفاع عنها، والسعي لاستعادتها؛ إلا من أخلص لها، وآمن بمبادئها، وضحى في سبيلها. وإذا كان البعض قد خذل الثورة أو خانها، وارتمى في أحضان أعدائها، وأصبح أداتهم "للتشغيب" عليها، فإن هناك الكثيرين من المخلصين للثورة ومبادئها، العاضين عليها بالنواجذ، والذين لم يعطوا الدنية في ثورتهم ولا في مبادئهم رغم كل ما تعرضوا له من قمع وتنكيل، ولا يزالون يبذلون ما في وسعهم دفاعا عنها في وجه هذه الهجمات التي تتعرض لها.. إنهم يدركون أن المعادلات حاليا مختلة، لكنها لن تظل مختلة طول الوقت، فلا الضعيف يظل ضعيفا ولا القوي يظل قويا أبد الدهر، ولا الأوضاع المحلية أو الإقليمية التي تسهم في رسم المشهد ستظل على ثباتها، وبالتالي فإن هؤلاء المخلصين للثورة والذين يمتلكون وعيا كافيا بالمعادلات المحيطة بهم هم في وضع تحفز واستعداد لأي متغير لصالح الثورة، وهم لا يقفون مكتوفي الأيدي بل يسعون لتعديل تلك المعادلات قدر استطاعتهم عبر ما يمتلكون من أدوات.
اليأس خيانة للثورة ولشهدائها، وفي تجارب التاريخ العبرة والمثل، فأصحاب كل القضايا العادلة لم ييأسوا في معاركهم طلبا لحقوقهم مهما تطاول عليهم الأمد.. قرأنا ذلك في قصص الأنبياء والمرسلين، وقرأناه في تاريخ الشعوب، بل في تاريخ مصر ذاته التي ظل شعبها يقاوم الاحتلال الإنجليزي لمدة سبعين عاما، لم تمنعه عن ذلك قوة المستعمرين وأسلحتهم وبطشهم وتنكيلهم وقتلهم للمصريين، وها هو الشعب الفلسطيني أيضا لم يرفع الراية البيضاء رغم قوة وجبروت المحتل الغاصب.
لقد قدمت ثورة يناير تجربة ثرية للمصريين في التمتع بالحرية والكرامة والعدالة، وكأنما كان ذلك عرضا ترويجيا لمدة ثلاثين شهرا، والآن فإن المصريين يدفعون الثمن لتملك هذه الحقوق والتمتع بها بشكل دائم، فلم تتوقف تضحياتهم يوما منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، ولم تتوقف مقاومتهم بأشكال مختلفة داخل مصر وخارجها، وحتى إن خفتت أحيانا إلا أنها لم تستسلم أو ترفع الراية البيضا، ولذلك فإن نظام السيسي لم يشعر يوما باستقرار حقيقي، حتى أنه لا يعرف أحد في مصر أين يقيم عبد الفتاح السيسي في مشهد لم يمر به أي حاكم من قبل.
إن استمرار فرض الطوارئ، ومنع التظاهر وإغلاق الميادين، والقبض العشوائي على المواطنين وتفتيش هواتفهم، واستعراض القوى العسكرية والشرطية في القاهرة وبعض المحافظات؛ هو دليل خوف وليس دليل قوة، لأن هذه الاستعراضات هي في مواجهة الشعب وليست في مواجهة عدو خارجي، وهذا وضع لا يمكن له الاستمرار طويلا لأنه ضد طبيعة الأمور، ناهيك عن كلفته المالية والأمنية العالية.
لقد انطلقت ثورة 25 يناير قبل تسع سنوات، وظلت على مدار تلك السنوات صامدة في وجه الثورة المضادة التي أرادت محوها تماما من ذاكرة المصريين، وهو صمود مرشح للاستمرار ومن ثم النجاح لأن صبر الشعوب يفوق كثيرا قدرات أنظمة الحكم مهما بلغ جبروتها، وها هم أبناء يناير المخلصين داخل السجون وخارجها يسطرون ملاحم في الصمود والتمسك بمبادئ الثورة، والدفاع عنها، لا يضرهم من خذلهم أو خانهم، كما أنهم يزدادون وعيا بالمشهد من حولهم، ويحسبون خطواتهم، وهم يراهنون بالأساس على شعبهم الذي صبر كثيرا لكن لصبره حدود.
أضف تعليقك