منذ اللحظة الأولى، سواء كنت من المؤيدين بالمطلق لمغامرة المقاول محمد علي، أو من رافضيها من حيث المبدأ، أو القابلين بها مع التحفظات، فإنه من باب خداع الذات والتعلق بالسراب أن ينسب كل ما جرى، خلال الشهور الأربعة الماضية، إلى ثورة يناير.
وسواء كنت ترى في مشهد نهاية دراما المقاول هزيمةً ساحقة، أو خاتمة منطقية لعملية خداع، أو انسحابًا مؤقتًا، أو دائمًا، فإن المهزوم هنا، أو المخدوع، ليس مشروع ثورة يناير، بل يمكن القول إن محاولةً براغماتية لإنزال هزيمة بسلطة عبدالفتاح السيسي قد سحقت، ذلك أنه من العبث أن يتبنّى أحد فرضية أن قصة المقاول الشاب، من الألف إلى الياء، تجسّد نضال ثورة يناير وحلمها.
منذ الإطلالة الأولى للمقاول الممثل، قبل العشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي، وكما أشرت وقتها، فإن الاعتقاد الأوسع لدى المصريين أن انقلابًا على الانقلاب في الطريق، إن لم يكن قد تم بالفعل، وأن ما يعلنه الممثل المقاول ليس شطحات شابٍّ باحثٍ عن الشهرة والزعامة، الأمر الذي يفجر موجاتٍ من القلق الشعبي مما هو قادم، إذ تنحصر الهواجس في موضوعيبن أساسيين: إما أن يخرج السيسي من الصورة إلى لأبد.. أو يخرج من هذه العاصفة أكثر تسلطًا وتوحشًا مما قبل، لتدخل البلاد في مرحلة جديدة من العنف والدم والقمع".
أيضًا، كان واضحًا لمن يعي ويشعر ويعرف كيمياء يناير أننا لسنا بصدد حركة تغيير ثوري، وإنما هي عملية تبديل، أو إزاحة وإحلال داخل النظام ذاته، وهذا لا اعتراض عليه، إذ يلامس، في الحد الأدنى، أحلام الناس في استنقاذ المعتقلين وكبح جماح المقتلة الدائرة في البلاد منذ استيلاء السيسي على السلطة بانقلاب عسكري مكتمل الأركان، حتى وإنْ كان مغلفًا بقماشة جماهيرية مصنوعة بحرفية شديدة".
بهذه البراغماتية، اقترب كثيرون وتفاعلوا مع ما أسميتها "عاصفة محمد علي"، والتي بدأت عفويةً وتلقائية، حتى انقضّ على مشروع المقاول فريق من مقاولي الثورات وأباطرة بيزنس الحراك والحركات والكيانات، فتحوّلت القصة من فرصةٍ يمكن مع حسن الإدارة وصدق النيات ونظافتها أن تتحوّل إلى موجةٍ ثوريةٍ حقيقية، إلى مقاولةٍ أو عمليةٍ يتنافس للظفر بها، ومنها، مجموعة التجار الذين يتعيّشون على هذا النوع من النشاط.
مبكرًا جدًا، قلنا إن الثورة مقاومة، وليست مقاولة، يديرها تاجر سياسةٍ محترف، يلتف حوله سرِّيحة صغار، يبيعون أوهاماً للغلابة، وأن أي مشروع وطني، يزعم صانعوه أنه ثورة، لا يجب أن تسقط من حساباته الأسس الأخلاقية والقيمية لكي ينجح، وإلا صار أقرب إلى العمل التجاري، أو العمل السياسي الذي يدار بقوانين السوق وقواعد المكسب والخسارة المادية.
وهذا لا يمكن مصادرة حقّ أحد في ارتياد طريقه أو تبنيه حلًا وحيدًا، واقعيًا، شريطة ألا يكون ذلك كله باسم الثورة، أو محاولة فرض مفاهيم تجارية لها، فالشاهد أن ثورة يناير لم تكن معنية أو مهتمة أو راضية بأن يتم إقحامها عنوة في محاولات نضال تجاري، لطائفة مقاولي الثورات الذين حاولوا فرض الجنرال أحمد شفيق حلًا "ثوريًا" لإزاحة عبد الفتاح السيسي، ثم بعد أن انتهت "كوميديا شفيق" بدأوا عرض دراما الجنرال الآخر سامي عنان، وتسويقه بديلًا سياسيًا لإسقاط الانقلاب عبر انتخابات هزلية مبتذلة.
مرة أخرى، لم يصادر أحد حقهم في القفز داخل قطار شفيق على طريقة الباعة الجائلين الذين يسرحون ببضاعةٍ رخيصة، أو أن يزاحم بعضهم بعضًا للظفر بوظيفة كاتب بيانات أحمد شفيق ومتحدّثًا باسم حملته، ولم يفرض عليهم أحد أن ينأوا بأنفسهم عن الهتاف لسامي عنان والتصفيق له .. كل ما رجوناهم فيه ألا يكون كل هذا الهراء التجاري الرديء باسم ثورة يناير وشهدائها، أو شهداء ميدان رابعة العدوية، والسجناء والمعتقلين، كون ذلك يسيء للأسس الأخلاقية والإنسانية التي دفع هؤلاء حياتهم وحرياتهم ثمنًا لها.
هذا أيضًا، قلناه وطالبنا به في عملية المقاول الشاب محمد علي، لم نرفض أن يحاول، ولم نفرض على أحد أن يقاطعها أو يعارضها، فقط كل ما كنا نطالب به ألا يكون ذلك كله باسم الثورة، أو تجسيدًا لها، لأن للثورة منطلقات أخرى وجوهرًا روحيًا آخر، فيناير كانت قصيدة شعر نقية وراقية، ولم تكن أغنية مما تسمى أغاني المهرجانات، مع الاحترام لحرية جمهورها في الاختيار.
وما دام ذلك كذلك، وبعد أن أسدل الستار على هذا العرض الدرامي البائس، بإعلان المقاول الخروج من بورصة السياسة، والعودة إلى المقاولات العقارية، فلا ينبغي لجمهور يناير الحقيقي أن يحبط أو ييأس أو يغتم، فكل ما جرى لم يكن لثورة يناير علاقة به.
وربّ ضارّة نافعة، فقد تكون فرصة لاستعادة البوصلة، وإدراك أنه لا يناير إلا يناير، والوضع في الاعتبار أن عمر مغامرة محمد علي، من بدايتها إلى نهايتها، لم يتجاوز أربعة أشهر، كان قبلها نضالات حقيقية، ستتواصل، وتتعمق، من دون أن تهدر جوهرها الأخلاقي، أو تضارب به في سوق المقاولات.
أضف تعليقك