ما يُسمى بـ (صفقة القرن)، وهي خطة الرئيس الأمريكي ترمب للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لا تمثل مفاجأة، ومع هذا يتم التعامل معها عربياً وكأن ترمب خرج فجأة وبجواره نتنياهو للإعلان عنها.
الخطة معلنة ومعروفة منذ أن دخل ترمب البيت الأبيض، والاسم الأمريكاني البرّاق الترويجي لها تم الكشف عنه يوم أن ذكره السيسي خلال وجوده مع ترمب في البيت الأبيض في زيارته لواشنطن في 3 أبريل عام 2017، (وجه كلامه لـ ترمب قائلاً: ستجدني بقوة أيضاً، داعماً وبشدة، لكل الجهود التي ستُبذل لإيجاد حل لقضية القرن، في صفقة القرن، وأنا متأكد أن فخامة الرئيس سيستطيع إنجازها).
الصفقة قيد التنفيذ
وبنود الصفقة بدأ تنفيذها تدريجياً على الأرض منذ ثلاثة أعوام، من اعتراف واشنطن بالقدس المحتلة عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة إليها، إلى إعلان الحرب السياسية والاقتصادية والمالية على السلطة الفلسطينية، والتضييق عليها بكل السبل لرفضها السياسة الأمريكية العدوانية، وإقرار إدارة ترمب بشرعية ضم تل أبيب للمستوطنات في الضفة الغربية، والدعم الكامل للاستيطان ضد القرارات الدولية، والتصريحات المتتالية لتأكيد يهودية وعنصرية دولة إسرائيل، ورفض حق العودة للفلسطينيين، ومخططات توطينهم بالخارج، وتهديد دول العالم بعقوبات إذا عارضت سياسة القهر تجاه الفلسطينيين، علاوة على الاعتراف بشرعية سطو إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
تصفية القضية الفلسطينية
وهذه الملامح العريضة من الصفقة نُفذت أمريكياً بالفعل، ثم حينما أعلن ترمب عن خطته رسمياً قبل أيام تأكد ما كان متداولاً بأن الهدف منها هو تصفية القضية الفلسطينية تماماً، وسلب ما تبقى من حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني، وجعل ما يتّحصل عليه هذا الشعب من أرضه المحتلة، بعد كفاح طويل مع قوة احتلال شرسة، عبارة عن فتات، أو منحة، أما الدولة فإنها إسمية، عديمة الجدوى، فاقدة للسيادة والسلطة والصلاحيات، ممزقة الأوصال، يتحكم المحتل بكل صغيرة وكبيرة فيها.
هذه الخطة كتبها العقل العنصري الاستعماري المتطرف في إسرائيل، وإدارة ترمب، وبما نعايشه اليوم فإن رؤساء أمريكا السابقين سيبدون - رغم سوءاتهم وإخلاصهم لإسرائيل- كأنهم كانوا حملاناً مع الفلسطينيين ووحقوقهم الوجودية مقارنة مع ترمب الغارق في تقديم مكافآت وهدايا سخية لها أكثر مما كانت تحلم به أي حكومة متطرفة منذ تأسيس هذا الكيان المغتصب لفلسطين بقوة السلاح والقمع والدعم الأمريكي الغربي.
معادلة ظالمة مستمرة
المعادلة الظالمة؛ من لا يملك يمنح من لا يستحق، هي قاعدة السياسة الأمريكية في التعامل مع الوطن الفلسطيني العربي السليب، وهذه القاعدة الملعونة تصل مع ترمب إلى نفي الوجود الفلسطيني واعتباره طارئاً، وفقط يمكن ترضيته ببعض الأحراش المتناثرة من أرضه ليعيش عليها صاغراً مستسلماً بالكامل للإسرائيلي.
والمعادلة الأخرى التي يُؤسس لها ترمب في خطته أن الفلسطيني صاحب الحق التاريخي مطلوب منه اليوم الإقرار النهائي بشرعية سلب ممتلكاته كلها، إلا نذر يسير منها، واعتبار ذلك رائعاً له، ومطلوب كذلك الدعم العربي والإسلامي لأكبر عملية سلب في التاريخ، والضغط على الفلسطيني المحاصر والمجرد من كل أدوات القوة، إلا الإيمان بقضيته، لكي يتنازل.
لا مفاجأة أمام هذا التوحش الاستعماري الصهيوأمريكي على الحق الفلسطيني الذي لا يسقط مهما كانت سياسة الاستعلاء والغطرسة، وسرقة كل ما هو مشروع في عالم متوحش لا مكان فيه للضعيف، لكن يبقى أن قوة الحق لا تسقط مهما علت قوة الباطل، وهذا ليس حديث المستسلم، إنما هو ضمير الموقن بالنصر يوماً، أقوى الامبراطوريات تفككت وزالت، وإسرائيل أقل من نقطة في خرائط الممالك الآفلة.
التواطؤ العربي
الكارثة أن صفقة العار، لم تكن بعيدة عن عواصم عربية، وليس مستبعداً أن تكون هذه العواصم شاركت في طبخها، أو استمزجتها، أو تواطئت على الفلسطينيين فيها، وهذه مرحلة غير مسبوقة في الانهيار السياسي والأخلاقي العربي.
ورغم كارثية مراحل الهزائم والانتكاسات السابقة، إلا أن العرب لم يكونوا على هذه الدرجة من السقوط في بئر التخاذل المريع للقضية الفلسطينية، ومن الخطايا العظمى أن يكونوا كلهم، أو بعضهم على علم بمؤامرة شطب الحقوق الفلسطينية لصالح المحتل الصهيوني.
وسيكون مهيناً لهم أن يحصل ذلك وهم في حالة خضوع ذليل لأسوأ رئيس أمريكي دخل البيت الأبيض، ويتفاخر كل يوم بوقاحة أن إسرائيل عنده فوق الجميع، ربما أهم من نفسه، والعرب المتحالفون معه يبتلعون هذه الوقاحة والإهانة، بل ويستعذبونها، ويتحلقون حوله، ويعلنون دون خجل ترحيبهم بالصفقة الخبيثة صراحة وضمناً، ويطلبون من الفلسطينيين التجاوب معها، باستثناء مواقف جيدة لعواصم محدودة.
أنظمة في خدمة إسرائيل
إسرائيل ربما لم تحلم يوماً بأنظمة حكم عربية تكون أقرب إليها من هذه الأنظمة التي فاقت الحدود في الارتماء في أحضانها، حتى بات الكيان المحتل أقرب إليها من شقيقاتها العربيات.
وإذا كان العرب أصحاب القضية المركزية يرتكبون هذا الإثم الكبير، فكيف يمكن لوم بلدان إسلامية بعيدة عن فلسطين والقدس، وأخرى أجنبية متعاطفة مع القضية تاريخياً، إذا اتجهوا لتعزيز العلاقات مع إسرائيل، ونقلوا سفاراتهم للمدينة المقدسة؟، وكيف يمكن إقناع العالم بمواصلة دعم الحق الفلسطيني إذا كان أصحاب هذا الحق هم أول من يفرطون فيه؟.
طالما أن الفلسطيني صاحب القضية، والمدافع الأول عنها منذ قرن من الزمان، والذي يقدم تضحيات هائلة وعظيمة ومُشّرفة، يرفض الخطة، ولا يوافق أحد عليها في السلطة والفصائل والشعب، فالمؤكد أنها خطة فاسدة، وأنها لا تضمن استعادة أرضهم، وأنها تسوية ظالمة لهم، وذلك حتى لا يقول أحد إن هذا هو المتاح، وليس في أيدي الفلسطينين أوراق ضغط، ولا مصادر قوة مادية تجعلهم يتحصلون على ما هو أفضل، وعليهم القبول، التسليم هو صك تنازل نهائي، وهذا ما يريده الصهيوني المغتصب، وعدم منحه هذا الصك سيجعله يتقلب دوماً على نار القلق وعدم الاستقرار.
أهمية الموقف الموحد
الموقف السياسي الفلسطيني العربي الإسلامي الموحد كفيل بقلب كل الموازين الأمريكية والإسرائيلية المختلة، وجعل ترمب يعيد التفكير في سياسته المتعجرفة ضد الفلسطينيين، فلا يجب الاستهانة بوحدة الموقف الجماعي الرسمي والشعبي، ولهذا هم يعملون جاهدين على ضرب هذه الوحدة، لأن في التفكك فائدة لهم للتشتيت، وجعل الفلسطيني وحيداً، وظهره مكشوفاً، بجانب إشعال معارك كلامية عربية إسلامية تضاعف الإحباط العام، وتعمق الأزمات، إنهم يفهموننا أكثر مما نفهم أنفسنا، وهم يجيدون اللعب على تناقضاتنا، هل نتذكر ما قاله ترمب بأنه كان ينتظر المظاهرات الشعبية عقب قراره بشأن القدس، لكن لم يحدث شيئ.
نعم، خيم صمت القبور على العواصم كلها بفعل القمع، وفي هذا إشارة مهمة للقلق الأمريكي من غضب الرأي العام العربي والإسلامي، والتحسب له في رسم السياسة واتخاذ القرار.
ورغم الانقسام الفلسطيني المؤلم، والضعف والتمزق العربي، والظروف المحيطة من صراعات واقتتال أهلي وتدخل دولي، والخريطة العربية المدمرة الغارقة في الدماء والخراب، فإن هذا لا يبرر الاستسلام، وقبول المعروض، والتفريط الذي لا يُبقي شيئاً كريماً في اليد.
لا خطة عربية إسلامية مضادة
أمام هذه الخطة التي كانت معروفة، لم تكن هناك خطة عربية إسلامية مضادة، بالطبع لم يكن متوقعاً مثل هذا التفكير التقدمي من أنظمة متجمدة، أو رجعية سياسياً، كما أن الطرف العربي متماه مع الخطة الصهيونية الأمريكية، ومنقاد طوعاً لترمب وإدارته ويدعمها مالياً وسياسياً وأمنياً كما لم يحدث مع رئيس أمريكي سابق.
الأنظمة العربية تستجدي الدعم من واشنطن، وتتقرب من إسرائيل لتساندها في الأروقة الأمريكية حتى تبقى جالسة على عروشها، لأنها غير شعبية لم تأت في انتخابات عامة نزيهة، منظومات حكم مستبدة وهشة تدعي القوة وتمارسها بغلظة لترهيب الشعوب حتى تتخلى عن الرغبة في امتلاك إرادة التغيير، ولهذا كانت المؤامرة على الربيع العربي وإفشاله، حتى لا تتحرر الشعوب، وتبني نظم حكم جديدة تقوم على تداول السلطة وتؤسس للكرامة الوطنية، ويكون ولاؤها الأول والأخير للشعوب، ولا تقرر شيئاً دون الرجوع لسلطة الشعب، والمؤسسات المنتخبة، وبديهي أن الحكومات المنتخبة لا تجرؤ على اتخاذ قرارات كبرى فيها تخاذل وتفريط في الحقوق العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، قضية كل عربي ومسلم، ولو ظلت قروناً أخرى.
أضف تعليقك