بقلم.. علي الصالح
أعطى لنفسه الحق الذي لا يملكه في انتقاد الغير، ورّط نفسه بوضع يده في عش دبابير الفلسطينيين، وهو يحاول انتقادهم في قرار يخص قضيتهم المقدسة؛ إرضاء للرئيس الأمريكي ورئيس وزراء الكيان الصهيوني.
سمح لنفسه بأن ينصح الفلسطينيين، بما يفعلون وما لا يفعلون، في ما يخصهم ويخص قضيتهم الوطنية ومصيرهم، وكيف يديرون شؤون سياساتهم. إنه عبد الله بن زايد آل نهيان وزير خارجية دولة الإمارات العربية، التي قبل زعيمها الفعلي محمد بن زايد أن تكون وكرا لشركات الأمن الإسرائيلية، وسمح لنفسه بأن يؤدي دور «مندوب وكالة الترويج والتطبيع» لدولة الاحتلال في العالم العربي، وحتى الأفريقي، فنجح بأمواله في إسقاط رئيس مجلس السيادة في السودان، الجنرال عبد الفتاح البرهان بمشاركة من مصر والسعودية، في بئر التطبيع، وجمعه مع بنيامين نتنياهو في العاصمة الأوغندية قبل أيام.
وتتناقل الصحف الإسرائيلية خبرا مفاده، أن مصر والإمارات تسارعان الخطى أيضا لتوريط محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، في لقاء تستضيفه القاهرة يجمعه مع نتنياهو، الذي أصبح محور زعماء المنطقة، ويلهث وراءه معظم القادة العرب، كي يضمنوا لأنفسهم صكوك الغفران، وتذاكر الوصول إلى واشنطن، وهذا ما أكده الجنرال البرهان. وجاء انتقاد عبد الله بن زايد غير مباشر، بإعادة نشر مقالة من صحيفة «نيويورك تايمز» عبر حسابه على تويتر عنوانها «في كل مرة يقول الفلسطينيون لا، يخسرون».
الفلسطينيون قد يخسرون جولة، بل جولات، ولكنهم لم ولن يهزموا قط، وها هم وعلى مدى قرن صامدون على أرضهم، مدافعون عن حقوقهم، يرفضون الضيم والذل والهوان، ولم يرفعوا الرايات البيضاء قط يا عبد الله بن زايد، ولن يرفعوها. وها هي الضفة الغربية تنفجر من جديد في وجه الاحتلال. الشعب الفلسطيني لا يرفض عبثا ولم يكن يوما عدميا، وأثبت على مرّ العقود أنه شعب حيّ ومرن، قادر على قراءة الخريطة السياسية الإقليمية والعالمية، ويتعامل معها، ومن هنا يأتي رفضه لما جاءت به ما تسمى صفقة ترامب، صفقة لم ترض بها حتى شخصيات إسرائيلية مرموقة، وحتى الاتحاد الأوروبي، الذي هدد إسرائيل باتخاذ إجراءات عملية إذا ما أقدمت حكومة الاحتلال على ضم أراض من الضفة، وفقا لصفقة القرن، ومنها الاعتراف بدولة فلسطين.
وأكثر من مئة من النواب الأمريكيين يرفضونها وبعثوا للبيت الأبيض مذكرة اعتبروا فيها الصفقة خطيرة، وتعطي الضوء الأخضر لإسرائيل بتكريس انتهاكاتها للقانون الدولي.
الفلسطينيون قد يخسرون جولة، بل جولات، ولكنهم لم ولن يهزموا قط.
صفقة لم تلق تجاوبا إلا من اليمين، بل اليمين المتطرف في إسرائيل وأعوانهم العرب، الذين تمثل بعضهم بسفرائهم في واشنطن، في أثناء الإعلان عن الصفقة في البيت الأبيض، وكي لا ننسى التاريخ في 28/1/2020، وهل هناك أكثر جرأة من سفير الإمارات يوسف العتيبة، عراب التطبيع وسفيرة عُمان وسفير البحرين، الذين فاز ثلاثتهم بوسام الإشادة من ترامب ونتنياهو.
ونذكِّر فقط بما تجاهلته «صفقة القرن»، التي لم تشمل شيئا إيجابيا واحدا يقبل به الفلسطينيون، أو أي شعب يحترم نفسه، ولا يفرط بحقوقه الدنيا التي رضي بها،
والأفضل للشعب الفلسطيني أن يبقى إلى حين، تحت الاحتلال، ويعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، على أن يقبل بعرض كهذا، ويفرط بالقدس درة التاج الفلسطيني، كما تنص الصفقة، ويتنازل عن السيادة على أرضه وأجوائه وحدوده، ويسقط حق العودة للاجئين الذي حفظته قرارات الأمم المتحدة، ويعترف بيهودية إسرائيل وبالقدس غير المنقسمة عاصمة لها (كما جاء في نص الصفقة)، بما ينعكس سلبا على فلسطينيي الداخل، أي مناطق 1948، وهذا غيض من فيض. من حق عبد الله بن زايد الخوف من ثورة وغضب ترامب وحاشيته، ولكن ليس من حقه أن يفرض خوفه هذا على الفلسطينيين. وقد يقول قائل إنه يفعل ذلك «لمصلحة الفلسطينيين وخوفا عليهم!» فهو لا يريدهم أن يعادوا الشيطان الأكبر بإسماعه الكلمة السحرية «لا»، وهو أي عبد الله الذي ما قال لهم (لا) قط، وإذا كان هذا هو القصد، وهو ليس كذلك، نقول لابن زايد «شكرا ودع نصائحك لنفسك». وكلمة (لا) لا تدخل في قاموس كلمات ابن زايد مع إدارة متعجرفة هاضمة للحق العربي عموما، والفلسطيني خصوصا، إدارة لا تكن له ولمن هم حوله أدنى احترام، إدارة ورئيس لا يحترمانه ومن هم على شاكلته، وينظر إلى بلده كبئر دولارات لا أكثر ولا أقل، وستهجره وتغلقه إن نضب المال.
وهذا ليس تجنيا، فقد قالها ترامب غير مرة، وعلى نحو مهين ومقزز، وهم واقفون إلى جانبه بابتساماتهم البلهاء، لكن كما يبدو فإنهم يطربون لسماع عبارات الإهانة والسخرية التي تأتي من «الحبيب» الأمريكي. لكن ذلك لا ينسحب على شعب أصيل حي كالشعب الفلسطيني، شعب لا يدير الخد الأيسر، ويرد الصاع صاعين، بل ألف صاع، شعب لا يقبل ضيما ولا استسلاما ولا خنوعا، وسيظل متمسكا بحقوقه الوطنية طال الزمان أم قصر، وطالما بقي فيه عرق واحد ينبض. حتى الإسرائيليون أو لنقل العقلاء منهم، الراغبون في تحقيق السلام، دعوا الفلسطينيين لرفض هذه الصفقة، التي قال عنها أفرايم سنيه وهو وزير سابق ومتشدد، وشارك في اتفاق أوسلو، إن صفقة القرن «تصنع دويلة فلسطينية خريطتها أشبه بأكلة «الشكشوكة». وأضاف أن «الحديث في المفاوضات السابقة وحتى 2008 حول 22% من فلسطين التاريخية، أما صفقة القرن فتقترح قيام دويلة على 16% فقط، لشعب يعد 50% من سكان البلاد. فهذا حل غير جدي، ولن يوقف الصراع الذي لا أظن أنه سيكون صراعا لصالحنا مستقبلا، وفي المدى البعيد، ومن يفهم العالم وأين يسير يعرف أنه لا يمكن الاحتفاظ بهذا الواقع وتكريسه».
ودعا مسؤولون إسرائيليون سابقون آخرون، على سبيل المثال لا الحصر، يوسي بيلين أحد كبار مفاوضي أوسلو، إلى رفض هذه اللعنة الأمريكية، وسيعلن رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت موقفه الرافض للصفقة في نيويورك الأسبوع المقبل. واعتبر شمعون شاباس المدير العام السابق لديوان رئيس حكومة الاحتلال، الصفقة خطوة أحادية الجانب، ستؤدي بإسرائيل إلى حالة من الفوضى والتيه. وقال «حصل نتنياهو وترامب على التصفيق الحار لدى إعلانها، رغم الخطر الأمني المحدق بإسرائيل بسببها، وظهرا كما لو أنهما حققا نصرا أكبر من أي وقت مضى».
وأخيرا، فأنتم أيها الذين تطالبون الشعب الفلسطيني بالتنازل عن أرضه بعد مئة عام من النضال والقتال والمعاناة، تسمحون لأنفسكم بالتوسع خارج حدود بلادكم، وتتصرفون كدولة استعمارية كبرى، ومرتزقتكم يعيثون فسادا في ليبيا واليمن، بمساعدة من سعودية محمد بن سلمان، الذي جر إلى هذه الحرب المستعرة منذ نحو خمس سنوات فدمرتم ليبيا واليمن السعيد، وقتلتم شعبه وجوعتم أطفاله وتسببتم بنشر الأمراض في أوساطه.
وأختتم بما قاله محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا في مناطق 48، موجها كلامه لمن يسمون تجاوزا زعماء عربا: إذا لم تكونوا معنا، فلا تكونوا علينا، فنحن لا نريد يسركم ولا عسركم، نحن قادرون على تدبر أمورنا، ولكن أن تكونوا سيفا مسلطا على رقابنا، فهذا لن تقبل به شعوبكم» ولا نحن أيضا.
أضف تعليقك