إذا كان للتخبط الذي تعيشه أمتنا عموما، ومصر خصوصا، عشرة أسباب مثلا، فسيأتي في ترتيب متقدم منها "غياب ضبط المصطلحات" التي نستعملها في نقاشنا السياسي، أو بالأحرى تناحرنا السياسي، الذي (على ما يبدو) أنه سيمتد إلى أجيال قادمة، حتى يأتي جيل قادر على تحرير هذه المصطلحات، وضبطها، واستعمالها على وجهها الصحيح. ساعتها فقط، يمكن أن يصل الفرقاء السياسيون إلى نتيجة ما، حتى لو كانت متواضعة. وهذا في حد ذاته، سيكون إنجازا عظيما، في أمة فقدت بوصلتها لقرون، وعجزت عن تحرير مصطلحاتها السياسية، جيلا بعد جيل.
من المصطلحات غير "المُحرَّرَة" التي يسرف الجميع في استخدامها، في خضم التناحر السياسي القائم والممتد، مصطلح "المعارضة"، ومشتقاته: عارض، يُعارض، فهو معارض، ومعارضون.. ورغم تحفظي على المصطلح ذاته، والغاية منه، عند ناحِتِيهِ الأصليين، وهم علمانيو "عصر الأنوار"، بيْد أن معناه يظل مقبولا، في ظل نظام سياسي مستقر، تتناوب فيه الأحزاب على الحكم، من خلال انتخابات عامة.. أما في حالة "الثورة" فليس مفهوما (بأي حال) أن يكون المرء معارضا وثوريا، في آن واحد!
فالمعارضة في أي نظام سياسي هي الوجه الآخر للسلطة، أو هي السلطة المحتملة، ومن واجباتها الأساسية أن تحافظ على النظام السياسي القائم، باعتبارها جزءا لا يتجزأ منه. ومن ثم، فإن سعي "المعارضة" لتقويض هذا النظام، باللجوء إلى وسائل غير دستورية، كالدعوة إلى الثورة ضده، أو بالانقلاب عليه، فإن كل ذلك يُعد صُوَرا من صور "الخيانة العظمى" التي توجب أشد عقوبة في القانون، ولا يمكن تمريرها بأي حال، أو التساهل مع مرتكبيها. ومن ثم، فلا يمكن للمعارض وصف نفسه بـ"الثائر"، كما لا يمكن للثائر وصف نفسه بـ"المعارض".
لكن في الحالة المصرية، كل شيء ممكن، وجائز، للأسف الشديد! فالحديث بين مناهضي الانقلاب (في الخارج) لا يتوقف عن وجوب "تنظيم صفوف المعارضة"؛ للإطاحة بسلطة الانقلاب، في مصر! فماذا يعني هذا؟!
يعني أننا أمام "قادة سياسيين" بحاجة ماسَّة إلى الإلمام بأبجديات السياسة، ويعني أن هذه "النخبة السياسية" لا تعرف ماذا تريد، على وجه التحديد! ويعني أنها تدين نفسها بالخيانة العظمى، بينما تعتقد أنها تقوم بعمل "وطني" عظيم! ويعني أن الشعب المصري سيظل يفتقد من يرفع وعيه، حتى إشعار آخر، ويعني أن الأمل في إسقاط الانقلاب يتضاءل، ويعني أن العالم سيظل يدعم سلطة الانقلاب؛ لأن "البديل" عاجز عن التمييز، بين الثورة والمعارضة!
هذا لا يعني أننا نمضي في طريق مسدود، بل يعني أننا نواجه مشكلة تبدو معقدة، وهي ليست كذلك، وحلها بسيط ومعروف، إنه "الثقيف السياسي"، الذي يجب على الإعلام المناهض للانقلاب أن يولِيه الاهتمام الذي يستحق، بأن يفسح المجال أمام المفكرين، والباحثين، والأكاديميين، في برامج "التوك شو" الأكثر مشاهدة، بالإضافة إلى إطلاق برامج تثقيفية تقدم الثقافة السياسية في قالب من الإمتاع، كما يجب أن تتم عملية التثقيف بصورة "منهجية"، ومستمرة، بحيث يتمكن المشاهد (مع الوقت) من تكوين حصيلة ثقافية، وثروة معرفية، تعينه على متابعة الأحداث بعين المراقب الناقد، لا بعين المتلقي العاجز عن تكوين موقف ورأي.
للأسف، فإن الإعلام المناهض للانقلاب، يصرف جُل وقته في "خربشة" وجه الانقلاب! وهي كأي خربشة، تترك أثرا، لكنها لا تُميت! ربما تشفي هذه الخربشة غليل المظلومين والمقهورين، غير أنها لا ترفع وعي الشعب إلى المستوى المطلوب. فإذا كان الانقلاب مشكلة، وهو مشكلة، فالمشكلة الأكبر هي الشعب الذي فرّط في أول تجربة سياسية ناجحة في حياته، فلم يحافظ على مكتسباتها، ولم يتكوَّن لديه الوعي الكافي (حتى اليوم)، كي يحافظ على مكتسبات ثورته القادمة، أو الثورة التي يجب أن يقوم بها، والتي بدونها لن يمكنه الخروج من هذا النفق المظلم الذي أدخله إليه الانقلاب العسكري قسرا، قبل سبع سنين عجاف. والحال كذلك، فإن هذه الثورة لن تفجرها إلا قيادة راشدة، مثقفة، تعي (تماما) الفرق بين الثورة والمعارضة.
هذا المقال بقلم أحمد عبد العزيز - المستشار الإعلامي للرئيس محمد مرسي
أضف تعليقك