• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم سليم عزوز

لم يكن غريباً أنه في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن انهيار الصحافة في مصر، أن تنشر صحيفة المساء خبراً يحمل عنوان: "صحيح صعيدي"، يمثل إهانة للصعيد وأهله، وبما يكشف عن جانب آخر من جوانب الأزمة أو انهيار المهنة، فلم نميز بين المنشور في صحيفة وما ينشره العامة على منصات التواصل الاجتماعي!

بعد هذا العنوان "التمهيدي" جاء العنوان الشارح يفيد بقيام أحد "الصعايدة" باصطحاب حماره داخل القطار المتميز، وقبوله أن يدفع غرامة مالية نظير هذه المخالفة. ولا ندري إن كانت الواقعة قد حصلت فعلا، أم لا، لكن ما نعلمه تماماً أن سوء الاختيار لقيادات مهنة الصحافة، في ظل الحكم العسكري، كان سبباً في هذا النشر بالطريقة المهينة، وبما يمثل عنصرية منهي عنها قانوناً. وإذا كان يمكن أن تكون لغة متداولة في ظل الابتذال الذي تراعاه السلطة على "فيسبوك"، فإن المؤسف حقاً أن يتم تمريره عبر صحيفة عمرها من عمرها يقترب من السبعين عاما.

مرور الكرام:

فجريدة "المساء" هي واحدة من الصحف التي أصدرتها ثورة يوليو 52، ومن المفترض أن طول مدة الإصدار يحدث خلالها تعاقب الأجيال، وانتقال الخبرة الصحفية والتقاليد المهنية من جيل إلى جيل، على عكس الصحف الخاصة، التي يعد أحد عيوبها هي أنها صحيفة الجيل الواحد، فلا خبرة تنتقل، ولا تقاليد تتوارث، ولا أحد يُعلم أحداً. والأمر كان مختلفا في تجربة الصحافة الحزبية، التي بدأت كبادرة من صحفيين كبار في المؤسسات الصحفية القومية، قبل أن تفرز كوادرها!

والمشكلة التي أنتجت هذا الخطأ المهني الجسيم في جريدة "المساء"، مردها إلى أن اختيارات ما بعد حزيران/ يونيو 2013 وسدت الأمر إلى غير أهله، فكانت قطيعة بين الأجيال، ونهاية لمرحلة انتقال تقاليد المهنة من جيل إلى جيل، وجريا وراء الإثارة لمجابهة حالة الركود في سوق توزيع الصحف، فلا يميز من مرر هذا الخبر ومن صاغ عنوانه؛ ما بين الطرفة وبين الإهانة التي يعاقب عليها القانون!

والمؤسف أن هذه "الإهانة" التي لحقت بالصعيد وأهله مرت مرور الكرام، فقد فتحت الهيئة الوطنية للصحافة (ممثل المالك للصحافة القومية) تحقيقا، وأحال رئيس التحرير ما نشر للشؤون القانونية داخل المؤسسة، لتصبح "المسألة في بيتها"، فهذه الإجراءات اتخذت لتدارك ردة الفعل على هذه الإهانة التي كانت بالتجارب لا تمر بسهولة. والمدهش هو هذا الصمت من قبل النواب الذين يمثلون الصعيد (ولو تمثيلاً زائفاً) فلم يثر ما نشر بداخلهم حمية، ولو زائفة، ولم ينتج موقفاً، ولو من باب التمثيل والنضال المجاني. وفي وقائع سابقة، كان النواب الذين ينتمون للحزب الحاكم أكثر غضباً من نواب المعارضة أو المستقلين، فلماذا خارت القوى وأصبحت النفوس رخوة، لا تغضب لشيء؟!

واقعة قديمة:

أتذكر بهذه المناسبة واقعة شبيهة بهذه الواقعة، عندما كان الدكتور عبد الرحيم شحاتة يشغل موقع محافظ القاهرة، وكان شخصاً غشيما إذا تكلم، ويقال إن غُشمه مرده إلى أنه مسنود، إذ كان شقيقه ضابط في الرئاسة كما كان يتردد في ديوان عام المحافظة (هناك من قال بل كان ضابطا في المخابرات)، وكان بالتالي يتصرف بتعال، فأعلن ذات يوم في مؤتمر صحفي، عن الذين سيعمل على منعهم من دخول العاصمة، وكتب زميلنا "أحمد سيد" محرر شؤون العاصمة بجريدة "الأحرار"، الخبر على هذا النحو: "محافظ القاهرة: ممنوع دخول القاهرة للصعايدة وعربات الكارو"!

وإذ توزع صحف الصباح ليلا بالقاهرة، فقد تلقيت اتصالات من البرلمان في الصباح الباكر يفيد بأنه لن يكون يوماً طبيعياً، إذ ارتفعت درجة الحرارة داخل المجلس قبل انعقاد جلساته، ضد ما يمثله هذا التصريح من إهانة، ولا يمثل الصعيد فقط بنوابه، فهناك عشرات النواب الذين ينتمون اليه وإن كانوا يعيشون في محافظات الوجه البحري!

إن نواب الصعيد، الذين ينتمون للحزب الوطني الحاكم، قد لا يخوضون معركة ضد الحكومة في حريق قطار الصعيد، الذي تولى الدكتور محمد مرسي (ابن محافظة الشرقية) وزعيم كتلة جماعة الاخوان المسلمين في البرلمان استجواب الحكومة، لكن هؤلاء النواب لا يقبلون هذه الإهانة المباشرة، على النحو الوارد في خبر جريدة "المساء"!

فكانت ضجة كبرى، وأعلن المحافظ اعتذاره أكثر من مرة، لكن لم يتمكن رئيس البرلمان من السيطرة على الجلسة، وكان يعرف أن الغضب له ما يبرره فلم يكن حاداً كعادته، حتى لا يناله من هذا الغضب الحاد جانباً.

لقد علمت أن وزير شؤون البرلمان والرجل القوي في الحزب الحاكم، عندما طالع عدد الأحرار صباحا استشعر الخطر قبل وقوعه، واستدعي المحافظ لمكتبه، قبل أن يرى غضب النواب، طالبه بالاستعداد للاعتذار، لإطفاء حرائق توقع اشتعالها. فرفع المحافظ الراية البيضاء بدون نقاش، فلم يعتذر فقط ولكنه قال إن تصريحه تم تحريفه من قبل الأحرار، وتحداه الأحرار بأنها تصريحات مسجلة.

الهوان:

ليصبح الجديد في الحالة الأخيرة هو هذا التخاذل عن نصرة النفس، ولو بطلب تطبيق القانون على الصحيفة، ولو من باب أن الانتخابات على الأبواب!

إن هذا الهوان مرده إلى النوعية التي اختارتها الأجهزة الأمنية لعضوية برلمان قامت باختيار أعضائه، لتصبح العملية الانتخابية بعد ذلك هي تحصيل حاصل. ومن الواضح أنه روعي في من اختارتهم "الأجهزة"، أن يكونوا ليسوا من الذين تجري في الدماء في عروقهم، وليس عجيبا (والحال كذلك) أن يمرروا صفقة التنازل عن التراب الوطني، فلا يرفضها سوى سبعة عشر عضواً، وفي بلد تتساوى في وجدان ناسه الأرض بالعرض!

واللافت كذلك، إن لم نسمع عن بلاغ قدم للنائب العام ضد هذه الإهانة، كما أن نقابة الصحفيين لم تحرك ساكنا تجاه هذا الخروج على قيم المهنة وقواعدها، وما يمثل خروجاً على ميثاق العمل الصحفي ينبغي ردعه، ومحاسبة من تسبب فيه، ليترك الأمر لقرارات بلا قيمة كتلك التي اتخذتها الصحيفة وجريدة "المساء" نفسها!

إنه سكون كاشف عن فقدان العافية!

أضف تعليقك