بقلم عامر شماخ
في حوالي العام 2005، وبعد صلاة عشاء أحد الأيام جلست لسماع “بيان” – وهو موعظة من الرقائق يلقيها أحد أعضاء جماعة دعوية اعتادت الخروج فى الأحياء والتخييم فى مساجدها – ألقاه شاب عشرينى يبدو أنه لا يملك من العلم شيئًا، إلا أن له ابتسامة رائعة، وحضورًا ملك به أسماع المصلين الذين لا يتعدون ثلاثين رجلاً.. وكان مما قال واهتزت له القلوب أنه زار باكستان وبعض دول جنوب شرق آسيا – في رحلات التبليغ والدعوة التي تنظمها جماعته – فوجد المسلم يتنصَّر فى مقابل ما يعادل (ربع جنيه مصري)، وأنه في سنة واحدة تحول من الإسلام إلى النصرانية والديانات الأخرى نحو (عشرين مليونًا!).
بالطبع صدمتني هذه الإحصائية الكاذبة، فانتظرت حتى انتهى من «بيانه» وانتحيت به جانبًا وقلت له: هذه الأرقام ليست صحيحة، خصوصًا أننى متابع جيد لطبيعة عملى، كما لا يصح أن تذكر ذلك على الملأ فيقنط الناس.
وجادلني الرجل وجادلته؛ وإذ بكبيرهم ذي اللحية الممتدة والبنيان المخيف يأتي إلينا مسرعًا مهددًا إياى، وهو لا يعلم ما دار بيننا، قائلًا إن هذا أفضل من مائة مثلك، قلت كيف وهو يتكلم بالكذب والخطأ، قال: لأنه كان كان نصرانيًّا وأسلم منذ وقت قصير وبدلًا من أن تحتفي به تحرجه وتكدره.. وكانت معركة، نجوت منها بفضل الله ثم بفضل أصدقائي الحضور..
ذكرت هذه الحادثة القديمة لأؤكد أن الدعوة ضحية أبنائها الذين يعمل كل فريق منهم فى واد، والذين اعتقد كل واحد منهم أنه هو الصح وغيره على خطأ، على غير منهج الإسلام في التعاون في المتفق عليه والإعذار في المختلف فيه، وفي التسديد والتقارب، وقبول النصح، والتخلي عن الغرور الذي ينفي العلم، ودفع الكبر الذي هو ند التجرد والإخلاص.. ويؤسفني أن أعترف أن كثيرين من العلماء والدعاة لم يتغيروا رغم توالي السنين وتتابع المحن والأحداث.
آفة البعض في ترتيب الأولويات، فلم يبدأ بما بدأ به المعصوم وصحابته الميامين ومن بعدهم السلف الكريم، إنما وضع لنفسه طريقًا خاصًّا ظن أنه يوصِّل إلى الغاية نفسها، وهذا زهوٌ منهىٌ عنه، وإقدام فى غير محله، وأساس على أرض هشة، أما مقولة “هم رجالٌ ونحن رجال” فهذا ضربٌ من الانتفاخ الكاذب، وجهل غشى القلب والعين والأذن؛ ذلك أن دعوة الله واضحةٌ معالمها، معبدةٌ طرقها لمن سلكها المسلك الصحيح ولم يأتها من دروب غير مأهولة.
لقد قدَّم الله -تعالى- الفهم على العبادة، في قوله تعالى: (فاعْلمْ أنّهُ لا إلهَ إلا اللهُ واسْتَغفرْ لِذَنبكِ..) [محمد: 19]، وهذا مدار الإسلام كله؛ فالعالم – الحق – أشد على الشيطان من ألف عابد، والفقيه أرفع درجة وأعلى كعبًا من حافظ النصوص ولم يدرِ ما فيها، ورحم الله رجلاً عرف زمانه فاستقامت طريقته، وإن انحسار بعض الدعاة فى جانب دون آخر من جوانب الشرع لهو حبس للإسلام نفسه، بالتقوقع داخل أنماط وقوالب نصية لا روح فيها، لا تناسب العامة ولا تنقلهم من الدهماء إلى الصفوة، بل تضع الحاجز بعد الآخر حتى يبدو الدين في نظر العوام كأنه ألغاز أو أساطير الأولين.
سئمنا ممن يحوطون أنفسهم بالأتباع الجاهلين الذين خلعوا على هؤلاء «العلماء» عبارات خجل منا أئمة كبار مثل الإمامين أحمد وابن تيمية لما أطلقها عليهم البعض، فصرنا نسمع عبارة (أعلم أهل الأرض)، (أعلم أهل مصر)، (أعلم أهل زمانه)، وهذا ضجيج بلا طحن، فما رأينا عملاً علميًّا ميسرًا للعامة، ولا رأينا مواقف بطولة ترفع رصيدهم الدعوى، ولا رأينا حضًّا على الجهاد ضد الطواغيت المجرمين الذين انتهكوا الدين وأذلوا الدعاة الربانيين، ولا رأينا انتفاضة لأجل المسلمين الذين يُذبَّحون حول العالم، وفى حين كانت دماء مصر تنزف رأينا «الملسن» يدّعى المرض وينشر صوره وهو تحت الأجهزة بالمشفى، ورأينا “آخر” يتحدث – في محاضرة على الهواء والله – في فقه “التعدد”، ورأينا ثالثًا يختبئ، ورابعًا يسارع في المجرمين يخشى أن تصيبه دائرة.
إن قيمة العلم ليست فيما تحفظه عقول الرجال، ولكن فيما انتفعت به الأمة، ولو لم يكن صاحبه من المتبحرين في الشريعة، وإن إنكار العلماء للواقع والانكفاء على ذواتهم بدعوى تعلم العلم وتعليمه وكفى لهو خطر، وأي خطر؛ ولهذا لما ذُكر معروف الكرخي في مجلس الإمام أحمد فقال أحد الحاضرين: هو قصير العلم، قال له أحمد: أمسك، عافاك الله، وهل يُراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟
أيها الزاهون بالعلم، المعجبون بكثرة الأتباع! حرروا أنفسكم من استبدادها، وطهروا مجالسكم من التعالي والغرور، ولا يقل أحدكم لطلابه خذوا من فلان ولا تأخذوا من فلان وهو لم يدرك بعدُ ما يقال وما لا يقال في مجالس العلم التي ما فتئنا نسمع فيها تجريح الآخرين، والتقليل من شأنهم، بل السخرية والتنابز بالألقاب. فلا تزكوا أنفسكم، بل الله يزكي من يشاء، فرب ظُفر مرابط على ثغر أفضل عند الله من مائة من أمثالكم، ورب قائل كلمة أو فاعل موقف ترونه لا أثر له هو أكثر تخذيلاً فى الطغاة والكافرين من عمركم تقضونه في عداوة من لم يسر على طريقتكم..
ولا تظنون أن كثرة الأتباع دليل إيمان العالم أو بلوعه الدرجة العظمى في العلم والاجتهاد، بل إن الأتباع الكثر الذين يرحلون إذا رحلتم ويلتفون بكم إذا جلستم -هؤلاء نتاج الأنظمة السياسية المستبدة في وطننا الكئيب؛ فإنه لما كان للمستبدين علماء منافقون كرههم الناس، وتوجهت أعينهم ناحيتكم؛ ظانين أن كل ما جاء منكم هو الحق وغيره الباطل.. وساعة انكشاف هذا الاستبداد واستقرار الأحوال سينفضون عنكم؛ لأنه كلما زاد الوعي قلَّ التبع الجاهلون الذين لا زلنا نعانى شططهم ومغالاتهم حتى ليكاد يطلق عليهم “ميليشيات العلماء”؛ إذ لا يعرفون حوارًا، ولا بينة، ولا يتحلون بصبر أو احتمال، المهم عندهم ألا يُمسّ «الشيخ» الذى لو تنخم نخامة لابتدروها تبركًا به.
أضف تعليقك