أحزنتني يا صاحب كتاب «لا تحزن» عندما رأيتك تُلملم فضلات الاتهامات اليابسة التي كالها شانئو أردوغان وعفا عليها الزمن، لتُحذّرنا من احتمالية تنصيبه خليفة للمسلمين، لا تخف، عقلاء الأمة ينظرون إليه على أنه رئيس محافظ مخلص لوطنه، يسعى لرُقيّه وحفظ أمنه، ويتصرف إقليميًا ودوليًا بما يتفق مع مكانة دولته، التي اكتسبتها في عهده، فلا هو بخليفة للمسلمين، ولا هو بأتاتورك جديد، ولا هو بمُخلّص آخر الزمان، ولا يسعى لذلك ولم يدّعيه، ما هو إلا رجل يعتز بتراثه وهويته، ويتدرج لصبْغ المجتمع التركي بنفحات ذلك التراث.
المُهم الآن: أين جُثة خاشقجي يا عائض؟
سؤال من عاملتي المنزلية التي جلبت لي الكوب السادس من القهوة، حيث حدّثتها عن عرضك البهلواني الأخير، السؤال: «عندما كنتَ تثني على أردوغان، ألم تكنْ تعلم وقتها بوجود السفارة الإسرائيلية بأنقرة؟ ألم تكن تعلم بزيارته فلسطين المحتلة ولقائه شارون؟ ألم تكن تعلم بالمُسكرات والمُنكرات في بلده؟
هذا سؤال عاملة المنزل، أما أنا فلدي الإجابة، وحديثي ليس موجهًا إليك بصفة شخصية كداعية – لأنني أعلم أنك مجرد «بوق»، ينقل للجماهير ما يريده ولي أمره، من باب إضفاء الصبغة الشرعية على توجّهاته – وإنما أريد بِرَدّي، ذلك الذي ينفخ في البوق.
أمَا وقد وصفتَ ولي أمرك بأنه قائد الأمة الإسلامية، ومُطبّق لتعاليم الإسلام فإني أسألك ابتداءً: أين جثّة خاشقجي يا عائض؟
طنطنتَ كثيرًا حول تخلي أردوغان عن فلسطين ودفاعه عنها فقط بالشعارات، بينما قدّمَتْ حكومتك لها الكثير عملا لا قولا! فعلا لديك حق، فنحن نعيش أوهام الدعم التركي لفلسطين عبر الإرسالات الإغاثية المتتالية، ونعيش أوهام الرعاية التركية لملف المصالحة بين فتح وحماس. ونعيش أوهام أسطول الحرية وسفينة مرمرة التركية لكسر الحصار على غزة. ونعيش أوهام وقفة أردوغان في مؤتمر دافوس وهجومه على بيريز وحكومته الدموية. ونعيش أوهام رفض أردوغان لصفقة القرن وتنديده باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل.
المتلون الحقيقي هو الذي أرسل كتيبة الإعدام لقتل صحافي من بلده داخل سفارة دولة أخرى، ثم خرج يكذب ويقول إنه قد غادر السفارة
حدثني عن دعم ولاة أمرك لفلسطين في عهد سلمان وولده؟ ما الذي قدمته حكومتك لفلسطين زيادة عن غيرها؟ ماذا فعلتْ تجاه المستوطنات؟ ماذا بذلت من أجل جمع الكلمة الفلسطينية؟ بماذا بادرت لمواجهة صفقة القرن سوى أنها جزءٌ منها؟ لكنك لم تُجبني بعد: أين جثة خاشقجي يا عائض؟
تقول إن أردوغان قتل اليمنيين والليبيين والسوريين… هل أردوغان هو من قادت بلاده تحالفا عربيا لحرب مزعومة ضد الحوثيين، وقتلت المدنيين بالطائرات وحولت – بفشلها في حسم الحرب- تلك البلاد إلى بقاع منكوبة؟ هل أردوغان من يدعم اللواء الليبي الدموي المُنشق خليفة حفتر، الذي يمثل الدولة العميقة في الحرب على الحكومة المعترف بها دوليا؟ هل أردوغان هو من ألقى بثقله على دعم المعارضة السورية لمواجهة الأسد وحلفائه الإيرانيين ثم انسحب متراجعا عن فكرة رفض وجود بشار في أي حل سياسي، وانخرط في سياسة الدفع باتجاه التقارب مع النظام السوري عبر البوابات الخلفية؟
يبدو أن الشيخ يستجهل الجماهير، فلم يقدم دليلا واحدا على أن تركيا أطلقت رصاصة في اليمن، فدورها في تلك البلاد لا يتعدى الدعم الإغاثي. تركيا لم ترسل قوات إلى ليبيا إلا مؤخرا لدعم الحكومة المعترف بها دوليا، تحت غطاء شرعي من الاتفاقيات الثنائية.
تركيا لم تتدخل عسكريا في سوريا إلا من جهة حفظ أمنها القومي، وتوفير منطقة عازلة آمنة للسوريين، ولم تطلق النار على مدني واحد، بل كل منطقة تدخلها تكون بمثابة ملاذ آمن لأهلها السوريين.
يا عائض.. ما زال السؤال ساخنا: أين جثة خاشقجي؟
قارنتَ بين بلادك وبلاد أردوغان في تطبيق الشريعة، تتحدث عن رئيس تولّى إدارة الدولة على ما هي عليه من واقع علماني مُتوحّش، بما فيه من انتشار محلات الخمور ودُور الدعارة، لكنه مع ذلك يُسدد ويقارب ويأخذ بلاده بالتدرج إلى الصورة المحافظة، عبر تنشئة أجيال تكون هذه الصورة صِبْغتها، بدون عَنَت أو إكراه. الخمور والعهر – التي لا ترى سواها في تركيا – هي من أهم بنود الاستراتجية الجديدة التي تتم مناقشتها في مجلس «ولي عهدكم»، عبر من تمّ انتقاؤهم بعناية، ممن يقودونكم حاليا بمُباركة ودعم ملكي، لتكونوا قطعة من أوروبا، ويكون الرقص والتعري، ثقافة عامة، باسم الانفتاح ونبذ الماضي المُحترم. في تركيا، لا يُعتقل الدُعاة، بل يُبجّلون، بينما تكتظ السجون لديكم بإخوانك الدعاة، هل نسيتهم؟ رفاق دربك الذين لم يكن لديهم حظك ذاته من التحوّل إلى بوق رسمي؟ هل تذكُر خذلانك لسلمان العودة وسفر الحوالي وعوض القرني؟ هل نسيتهم وتُنكر وجودهم، كما نسيت الجثة؟
ذكّرتني.. أين الجثة يا عائض؟
وصفتَ العثمانيين بالمُحتلين للبلاد العربية، ولكن لماذا لم تُندد بهذا الاحتلال قبل أن تتوتر العلاقات بين السعودية وتركيا، ويُمنحُ الأبواق ضوءا أخضر، للنقيق؟ ثم إنه لو كان العثمانيون احتلوا السعودية بحسب قولك، فَلِمَ كان آل سعود يُعلنون السمع والطاعة للسلطان العثماني، والتأكيد على عدم الخروج عليه، فالأمير عبد الله بن سعود يرسل رسالة للسلطان العثماني محمود الغازي يقول فيها بعد أن نعته بالألفاظ السامية: «كل ما نسب إلى عبدكم من أمور الطغيان والخروج كلها ناشئ عن خدعة الشريف المشار إليه دسيسة» ثم اختتم رسالته بقوله: «قدمتُ عريضتي هذه التي هي أشهر من المثل السائر مصداقا لصداقتي على أن لا أنفك عن قيد الطاعة، وأن أُعدّ من عبيدكم القائمين بجميع خدمات الدولة العلية».
من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة، فهل تزعم أن المؤسس عبد العزيز بن سعود، وطّد حكمه لتلك البلاد بالدعوة السلمية؟ هل تذكر أم أُذكّرك؟ لماذا لا تعتبر الحروب التي خاضها المّؤسس لتوحيد الجزيرة العربية بمثابة احتلال كذلك؟ أجبني يا رجل: أين الجُثّة؟
تعيب على أردوغان فتح بلاده لمعارضي حُكّامهم الفارين من بطشهم، ووصفتهم بالخائنين لبلادهم، ذكّرتني ببلادك عندما كانت تستضيف جماعة الإخوان الفارّين من بطش عبد الناصر، وفتحت لهم الأبواب، ودرسوا وتعينوا في جامعاتها، فهل كان هذا الصنيع استضافة للخونة ناقضي البيعة المتآمرين على بلادهم أيضًا؟ لم تخبرني يا عائض بعد، أين مكانُ الجُثة؟
بالمناسبة، الأتراك الذين بدّعتهم لهُتافهم في الحرم «بالروح والدم نفديك يا أقصى» ليس لهم نصيب من فقهك الدعوي، فأين دعوتهم إلى الحق وتعليم من جهل منهم، بدلًا من رميهم بالابتداع والضلال وتعطيل شعائر الإسلام، ومحاربة السنة واتخاذ البيت الحرام لعبا ولهوًا؟ ترفّق بهم يا شيخ كما دعوتَ كثيرا في محاضراتك. الذين طالبتهم بالذهاب إلى بلدهم للهتاف من أجل الأقصى بالفعل يقومون بذلك آمنين مطمئنين على أنفسهم، ويَحتَجُّون ويتظاهرون دعما للأقصى، ويُندّدون بصفقة القرن تحت رعاية حكومتهم، لا تقلق، ولكن قل لي: من من أهل السعودية الكرام الذين يتألمون من أجل الأقصى يستطيع أن يهتف من أجل مسرى النبي، في شوارعكم؟
ولي عتاب عليك هيّن، لماذا تصف الهتاف للأقصى بأنها شعارت خرافية هدامة، أحقا هي كذلك، أم أنها صارت كذلك بتوجيهات أولي الأمر من أجل عيون التطبيع مع الصهاينة؟
على كل حال، أين الجثة يا عائض؟ أرثي لحالك وأنت تصف أردوغان بالمُتلوّن، الذي زار الدكتور سلمان العودة يُعزّيه في وفاة أهله بحادث أليم، ثم زجّ به خلف القضبان، بل وأمر بتكبيله لعدّة شهور وإهانته، فقط لأنه رفض السير في ركب المُطبّلين لحصار قطر، هو المتلون الحقيقي. الذي انكبّ يُقبّل قدم ابن عمه أمام الكاميرات لإظهار حُسن الأدب مع الكبار، بعد أن دبّر مكيدة الإطاحة به من منصب ولي العهد ليستلب العرش له ولنسله، هو المتلون الحقيقي. المتلون الحقيقي هو الذي بَشّر بإسلام وسطي معتدل، ثم فاجأ السعوديين قبل غيرهم بأنه يقصد بالوسطية السير على خطى محمد بن زايد، لتغيير ثقافة الشعب السعودي المُتديّن، وهويته. المتلون الحقيقي هو الذي أرسل كتيبة الإعدام لقتل صحافي من بلده داخل سفارة دولة أخرى، ثم خرج يكذب ويقول إنه قد غادر السفارة، هل عرفت من هو المتلون؟ حسنًا، لم تخبرني بعد، أين الجثة يا عائض؟
وددتُ لو استرسلتُ معك، لكن لا ذنب للقارئ، ويشهد الله أني لا أحب مهاجمة حَمَلة العلم بالدين إجلالا لما يحملونه لا تقديسا لهم، ولكن لحمك ليس مسموما يا عائض، ولستَ فوق مستوى النقد، وكلماتي هذه ليست تقديسا لأردوغان، ولك حرية انتقاده، لكن ينبغي أن لا يكون السبيل إلى ذلك قلب الحقائق وتزييفها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك