بقلم: عزة مختار
ليس من المعتاد في ريف مصر أن يعبر المسؤولون تلك المعابر المكونة من أفرع الأشجار ومواسير المياه العذبة العابرة للترع والمصارف الزراعية، والتي تعتبر المعابر الوحيدة للغلابة والبسطاء وطلاب المدارس والتلاميذ الصغار، لينتقلوا عليها من جهة لجهة أخرى في القرى والنجوع الكثيرة في البلاد لقضاء حوائجهم. وليس معتادا على أهل تلك القرى أن يروا البسط الحمراء والزرقاء مفروشة عليها وعلى الطرق الترابية والمتعرجة والضيقة وسط المصارف والمياه الراكدة والحشرات التي تهاجم أطفالهم دون شكوى، والبيوت التي لا تحمي قاطنيها صيفا من الحر وشتاء من المطر. لم تعتد تلك القرى رؤية الرتب الكبيرة من الحراسات والسيارات التي تدخلها بصعوبة وتخرج منها بمشقة لعدم وجود طرق ملائمة للسير عليها، ولا يدخلها هؤلاء إلا لاتخاذ "اللقطة" للمتاجرة بهم وباحتياجاتهم التي لا تلبي ولم تلبي يوما.
4655 قرية بناء على الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادر في 2019 والمنشور في جريدة الشروق يكشف أن أكثر من نصف تلك القرى تعيش في حياة تشبه القرون الوسطي، حيث أن نسبة 18 في المئة منها لا توجد فيها مدارس ثانوية، و22 في المئة تنقطع فيها الكهرباء بشكل يومي، و97 في المئة منها تعيش على العمل في المجال الزراعي فقط، و49 في المئة لا توجد فيها خدمات بريدية ومكاتب بريد، و75 في المئة لا يوجد بها سنترال حكومي، هذا علاوة على وجود أكثر 140 قرية تحصل على مياه الشرب عن طريق سيارات نقل، بينما أكثر من 25 في المئة منها تنقطع فيها المياه أياما متواصلة، وبعض القرى محرومة تماما من خدمة الكهرباء والصرف الصحي، هذا بخلاف سوء حالة الطرق بين المحافظات، والطرق الترابية المؤدية إلى القرى المتفرقة بحيث لا توفر الحد الأدنى من الأمان لسلامة مستخدميها.
وقد قامت وزيرة الهجرة المصرية بزيارة أكبر قرية منتجة بمحافظة الغربية لتكريم أهلها، وكي تعبر لمنطقة المنازل من الطريق السريع لم يجدوا كوبري أو معبر يليق بالسجادة الزرقاء، ولم يتوفر سوى معبر خشبي بسيط، وضعوا عليه البساط في صورة تعبر عن كافة المتناقضات التي تمر بها البلاد، في مشهد لم يعرفه سكان الريف قبلا، في وقت يجتهد فيه النظام في بناء القصور الرئاسية بالعشرات والتي تتكلف المليارات لتلتهم دخل الدولة من القروض الغير مبررة، وفي وقت تتعامل الحكومة بحالة من السفه في الإنفاق الحكومي في ما لا يمت لمصلحة المواطنين بصلة من قريب أو بعيد.
سياسة العسكر في الحكم والإدارة
حلول كثيرة وبسيطة وغير مكلفة يمكن أن تحل بها العديد من المشكلات العديدة التي يعانيها الفقراء في الريف المنسي، غير أن النظام الحالي الذي يمثل الامتداد والنموذج الأسوأ للحكم العسكري منذ الثورة المزعومة في بداية الخمسينيات بالتخلص من الملك لاستبداله بعدة ملوك، وضع الانقلاب العسكري قواعد سوداء للتعامل مع الشعب وذلك لتهيئته لتحمل السياسة العسكرية الفاشلة على كل المستويات، فاعتمد مبدأ إذلال الشعب بالرغم من القدرة على تغيير واقعه إذا أرادوا له ذلك، لكن الخبز يجب أن تكون جودته أقل من الصلاحية للاستخدام الآدمي، كذلك المواصلات والطرق والمدارس ومستوى التعليم الهابط بشكل عجيب، والمستشفيات المهينة لكرامة الإنسان والتي تتسبب في نقل الأمراض لا الشفاء منها، بل وصارت الموطن الأول في العالم للتجارة بالأعضاء.
لا أحد يأمن على روحه وسلامته في ظل الحكم العسكري، ويجب أن يستمر ذلك الشعور لدى الناس حتى لا ينتبهوا لما هو أبعد، أو يفكروا في ما هو أكبر.. يجب أن يستمروا منحني الظهور، وممدودي الأيدي في انتظار الفتات المتبقي من خدم العساكر، لذلك فمستوى الخدمات على مستوى الدولة ضئيل، واليوم في طريقه للانعدام، والتهديد برفع الدعم في كل مناسبة وغير مناسبة ما هي إلا سياسة إذلال، للمزيد من الانحناء، وقبول المزيد من الضنك، والرضا بالقليل في مقابل السماح بالعيش، مجرد العيش..
تمت عسكرة التعليم لتحتل مصر المراحل الأخيرة عالميا، وتمت عسكرة الاقتصاد لتتم تصفية الشركات وتسريح العمال ومنافسة التاجر البسيط في السوق لينفرد بالمشهد الاقتصادي، مع اعتماد سياسة الاقتراض التي أغرقت البلاد لعشرات السنوات المقبلة في السداد ولتختفي الطبقة المتوسطة من البلاد وتدخل دائرة الفقر المدقع.. تمت عسكرة الحكم المحلي لتنتشر ظاهرة العشوائيات وأطفال الشوارع وغياب الأمن من الشارع، وليتم قمع كل من يحاول الانتقاد أو المطالبة بأبسط الحقوق، وتصير الدولة هي الفرد، ومن ينتقد الفرد فقد انتقد الدولة ويدخل في عداد الخونة والخارجين على القانون، وتمت عسكرة الصحة فهرب الأطباء بالجملة من حكم المنظومة العسكرية للخارج. وتفتقد المستشفيات لأبسط القواعد الصحية، وها هو أداء وزيرة الصحة المصرية خير مثال على رخص الإنسان المصري في نظر النظام الحاكم.
وتلك هي الصفات الملازمة لأي حكم عسكري في أي مكان في العالم، فلا بقاء للعسكر في وجود منظومة علمية متقدمة. فالمتعلمون لا يقبلون المهانة من أحد، ولا وجود لعسكر في ظل وجود مفكرين، ولا وجود للعسكر في وجود أصحاء، ولا وجود لعسكر بين أغنياء، فسوف يملكون الوقت لقضايا أكبر من مجرد الحصول على لقمة العيش، ولذلك ستظل الشعوب المبتلاة بحكمهم أسرى لقبضتهم الحديدية حتى تخرج طليعة متجردة لله من دائرة الخضوع والخوف للانعتاق والعمل على إيقاظ غالبية الشعب.
إن الحكم الشمولي لا ينتج إلا الفشل، ولا يولد إلا العجز والديون والفقر وصناعة أمراض اجتماعية ليس من السهل التخلص منها.
الغليان المكبوت وألاعيب الأمن
ولقد نجح عسكر مصر في تقسيم المجتمع ببراعة منذ قتل الناس على أساس فكري وميولهم السياسية، فقسم المجتمع ليس ككل المجتمعات الحرة التي تعمل على صالح مواطنيها، وإنما قسمة مقتول ومفوض في القتل، حتى إذا باعد بين الناس انفرد بكل فئة على حدة فيقسمهم على أساس آخر وهو عسكري ومدني، ليستحوذ العسكري على مقدرات الدولة، ويدفع المدني ثمن الانقلاب مضاعفا.. تباع الأرض، ويتم التنازل عن الغاز، ويجف النيل، ويفقد الناس أرزاقهم وهم لا يعرفون حرفة غير الزراعة، ثم لا تهتم الوزيرة في زيارتها للقرية إلا بالبساط الأزرق فتعبر عليه ليتم التصوير، ثم يعود كل شيء لما كان عليه، وتقام الحروب المفتعلة بين الفنانيين بعضهم البعض لينشغل الناس في تلك المعارك الوهمية عما يحاك لهم.
وفي الوقت الذي تثار فيه قضية المهرجانات تتحدث الحكومة في إلغاء الدعم بشكل نهائي، مما يعني موجة غير مسبوقة من ارتفاع الأسعار.
هل انتهي الأمر عند هذا الحد؟ هل يستمر الانقلاب إلى ما لا نهاية؟ هل بإسقاط دعوة محمد على للنزول والثورة على النظام قد استتب الأمر للنظام الانقلابي؟
إن الممارسات اليومية والتي تتم على أعين الناس تخبرنا يقينا بأن الأمل في زواله موجود، وبسواعد الناس وبسبل سلمية. إن اضطرار النظام الأمني لإلهاء الناس بمعارك جانبية يعني أنهم خائفون من الشعب، ويتخذون قراراتهم تجاهه على خشية. وإحكام قبضتهم الأمنية ومنع التجمهر حتى في مباريات كرة القدم يوحي كذلك بكم تخوفات النظام من أي انتفاضة جماهيرية، فتنفلت الأمور من بين أيديهم. وعلاوة على ذلك فالضغوط الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه أي موضوع، يجبر النظام على الرد والتجاوب والتراجع. إن الأمل الوحيد للانقلاب ليبقى هو موت هذا الشعب، والشعوب تاريخيا لا تموت، إنما يموت المستبد وألف مستبد غيره والشعوب تبقى.
إن كل ما تحتاجه البلاد لفئة تبث الأمل في قدرتها على إزاحة الطغيان واستعادة حقها المسلوب. قد تكون تلك الفئة إعلاما يحمل مهمة التوعية والتنوير لإحياء روح الثورة من جديد، وقد تكون حزبا أو جماعة أو مؤسسة أو فرد. لكن للأسف فإن الثورة المصرية لا تملك إعلاما يتحدث باسمها، وما يسمى بإعلام الشرعية ما هو إلا ركن من أركان تثبيت النظام الانقلابي حين تقوم بتجميله بوجود ما تسمى بالمعارضة. ولا تملك الثورة ظهيرا لها إلا الشعب المطحون، والذي يغلي بالثورة ولا ينتظر إلا الشرارة الأولى.
لقد بغى النظام المصري على شعبه، وبغت المعارضة عليه باتخاذها جانب السكون والرضا بالأمر الواقع، وما على الشعب الذي يحرك النظام بحملة على فيسبوك أن يصنع قراره، ويفرز قيادته من بينه. فالبقاء دوما للشعوب مهما طغت الأنظمة، ووقت الحساب آت ولا رحمة لمن خذل الشعب يوما.
أضف تعليقك