• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: عامر شماخ

منذ سبع سنوات والمصريون رهن إستراتيجية وضعها الانقلابيون تكرِّس الجهل والأوهام لدى المواطنين، وأعتقد أن هذه الخطة قد آتت كثيرًا من ثمرها؛ فلا يخفى حجم التردى الأخلاقى الذى طفح فى المجتمع وتُرى أعراضه جليَّة فى السوق الأدبى والغنائى والدرامى، بل فى الإعلام كله؛ ما يهدد الأجيال المقبلة بالضياع، ناهيك عن صرف الأجيال الحالية عن التفكير فى قضايانا المصيرية وانشغالهم بمعارك هذا الإسفاف.

دُعيتُ- قريبًا- إلى عُرس لأحد الأصدقاء، وهالنى ما وقع فى بدايته -حيث انصرفتُ مبكرًا فرارًا مما جرى- من انعدام الحياء، وكثرة الاختلاط، وصمِّ الآذان بمهرجانات بيكا وشطة وشاكوش وغيرها من الملوثات. قلت: والله لم أعد أعجب من استفحال ظاهرة الطلاق والحال هكذا؛ لأن ما بُنى على هذا الإثم لسوف ينهار عاجلًا، كما لم أعد أعجب من كثرة البلايا التى أحاطت بنا لما رأيت الحضور وقد اندمجوا مع هذا الضجيج يرددون- رجالاً ونساء- تلك (المهرجانات) الهابطة التى حفظوها عن ظهر قلب.
وإذا كان الجهل والتدنى الذوقى قد وصل إلى هذا العُرس، وأصحابه من ذوى الأخلاق، فلا شك أن المجتمع كله قد ابتُلى بهذه الظاهرة المخيفة، وهو ما جعل من دعانى يتردد علىَّ معتذرًا، مؤكدًا أن ما أراه أخف بكثير مما يقع فى غيره من الأعراس.

تسعى الأنظمة المستبدة –جميعها- إلى إشاعة الجهل بين شعوبها، وإماتة الوعى، وإلى خلق مواطن (تافه)، فارغ العقل، عاشق للهو، غير منشغل بشىء إلا ملذاته، فصنعوا له وسائل عدة تبقيه على هذه الصورة من الضياع، وقدموا له الملهيات التى تجعله محبًّا للدنيا كارهًا للدين؛ فبدا كما ورد فى حديث النبى -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يبغض كل جعظرى جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بالدنيا جاهل بالآخرة».

إذًا؛ النمط الجاهل من المواطنين هو ما تستهدفه هذه الأنظمة، هذا النمط يكون بعد تغييبه أنانيًّا، قاسى القلب، أحمق، من السهل قياده كما يُقاد القطيع؛ بل ملء عقله الضحل بالأوهام والخرافة؛ من ثم وضعوا إستراتيجيتهم تلك، والتى بدأت بإفساد الحياة السياسية ووأد الديمقراطية، فلا تسمع أذنه ولا تبصر عينه إلا ما يبثونه؛ فالإذاعات والقنوات والصحف والكتب إلخ، كلها فى أيديهم وتحت سيطرتهم، وهى لا تذيع إلا المواد التى تخدم خطتهم، فتجدها حافلة بالفحش والرذيلة، والعنف والبلطجة، والميوعة والخنا، والفسق والإلحاد، وقلَّ أن تجد فيها عالمًا، وإن وُجد فهو لا يعظ بما يأمر به الدين، بل بما يمليه عليه المستبد.

وإذا كان علماء التربية يحددون عددًا من الوسائل المؤثرة فى تكوين الشخصية هى البيت والمدرسة والإعلام وجماعات الأصدقاء -فإن الانقلابيين قد سيطروا عليها جميعًا؛ لضمان تخريج جيل ضائع ينطق بلسانهم، ويتحدث بلغتهم، ويهتف لزعمائهم الذين يتنعمون فى القصور فى حين يقيم هو وعائلته المنكوبة فى مسكن يشبه القبور، ولو تطرقنا إلى اثنتين من هذه الوسائل لتأكدنا من تلك السيطرة؛ فالمدارس الآن مجرد (حضانات) للطلاب، تحتفظ بهم لعدة ساعات لإراحة ذويهم من شغبهم، لكن لا تربية ولا تعليم، ولا مناهج ولا قدوات -هذا بالنسبة للصغار حتى الإعدادية، أما طلاب الثانوى فلا يذهبون للمدارس، ولا ينتظمون فى الدراسة، وهذا بأوامر النظام بالطبع؛ خوفًا من تظاهرهم وانتفاضتهم من ناحية، ومن ناحية ثانية من أجل تركهم نهبًا لـ «جماعات الأصدقاء» التى صارت مثل قطعان الضباع الجائعة.

ولـ«جماعات الأصدقاء» دور كبير فى تلك الإستراتيجية؛ فلا أفسد للشاب من صديقه الفاسد، والمرء على دينه خليله؛ من أجل ذلك توسع النظام فى إنشاء المقاهى حتى صارت المشروع الأول والأربح فى المحروسة، وبها تجد كل الموبقات، ولا رقيب عليها، ومن يجد حرجًا فى الاسم فقد أسموها مسميات أخرى حتى تردد عليها -بشكل لافت- النساء والفتيات الصغيرات، وسمعت أنها أكثر تطورًا فى الأحياء الراقية حتى أنها خصصت علبًا لـ«المحبين!!»، وبها تباع المخدرات والخمور كغيرها من السلع الاستهلاكية.

وسلسلة الجهل لا تنتهى عند هذا الحد من الإلهاء بالفن و(الكورة)، والاستغفال بقضايا المشاهير، وتقديم رموز منهم للعدالة بين الحين والآخر كـ«كباش فداء» -بل هناك إصرار على تقزيم كل شىء؛ حتى يظلوا هم (الصفوة!!)، وانظروا إن شئتم إلى حال الوزراء والإعلاميين وحتى المشايخ والدعاة، وهو حال يدعو إلى النعى والرثاء. وكل هذا نسخة -هى الأسوأ- مما جرى فى الستينيات، من تولية الجهلة، وتقديم الفسقة، رغم تغير الأزمنة وتفاوت الأحوال؛ ما جعل المستبدين المعاصرين أضحوكة العالمين؛ فمن ادعى إنتاج صاروخى «القاهر» و«الظافر» كان يخاطب أمة ليس بها إلا قناة تلفزيونية واحدة هى قناته، أما الذى قدم «عبد العاطى كفتة!» فلفرط غبائه نسى أن العالم صار قرية صغيرة، وأن مصر وحدها بها ما يقرب من (50 مليون إعلامى) هم من يملكون حسابات على «السوشيال ميديا»، وأن نجاح الأنظمة الآن مرهون بإنتاجها الحقيقى وبوطنيتها وليس بتصدير الأوهام لشعوبها وإطلاق الشعارات كما الحال فى السابق.

سوف تغرقنا –بكل تأكيد- هذه الموجة من الجهل والخديعة، لكن ستكون لفترة؛ لأننا أمة لا تموت، ولأن صاحب «الإستراتيجية» يصطدم بعقبات شتى؛ أولها تفشى الوعى لدى قطاع ليس بالقليل، وثانيها وجود معارضة بالخارج، كبيرة وفاعلة، وهو ما لم يحدث مع الأنظمة السابقة، فضلاً عن التطورات التقنية التى لا تدع لهم فرصة للاستخفاف والتزوير، والعقبة الأكبر هى الفشل المتوالى ولا يجدون له مخرجًا سوى فرض مزيد من الجباية على الشعب، الذى مهما طال صبره فسوف ينتفض يومًا ويثور. وأخيرًا وليس آخرًا؛ تلك الصراعات القائمة بينهم، كحال أى عصابة من العصابات.

أضف تعليقك