بقلم: عامر شماخ
وددتُ لو اتفق جماعةٌ من المهتمين بالشأن العام، ووضعوا (لائحة آداب) أو ما يمكن تسميته (ميثاق شرف أهلى) يلتزم به –أدبيًّا- مرتادو«الفيس» ومواقع التواصل الاجتماعى الأخرى. وهذه الأمنية ليست صعبة التنفيذ إذا ما نهض لها رجالُها المخلصون، بعيدًا عن إدارات هذه المواقع التى قصرت هذه الآداب على منع (فيديوهات) العنف وكل ما له صلة بنقد اليهود.
لقد هيأت لنا هذه الوسائل مساحات هائلة للرأى لم تحدث فى تاريخ البشر، ولم تكن العقول تتوقعها، غير أننا -للأسف- لم نستفد منها إلى الآن كما يجب، بل تم الجور عليها واستخدامها بطرق خاطئة نتج عنها ما آلت إليه هذه الوسائل من شيوع الجهل والفساد الأخلاقى، وفشو الكذب والتعصب المقيت.
ولو أن كل صاحب حساب تذكر أن الكلمة أمانة وأنه محاسبٌ -لا شك- عما تخطه يداه؛ إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر- لتغير الحال، ولصارت هذه الوسائل ساحة عظيمة لتلاقح الأفكار وصلاح الأخلاق وتصالح العالم الذى لم يفق بعدُ من الحرب والنكد. والله -تعالى- قد صوَّر الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، وصور الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة اجتُثتْ من فوق الأرض ما لها من قرار؛ فلا يبقى إلا ما ينفع الناس، وما عداه فلا قيمة له وإن كان فى حجم تلك المواد التى تُرفع كل ثانية على هذه المواقع الجبارة.
وهناك -من ثمَّ- دورٌ للأفراد ودورٌ للمؤسسات؛ لتنقية هذه الوسائل بغية الاستفادة منها. أما دور الأفراد فهو الالتزام الأخلاقى أولاً -وقبل كل شىء- بألا ينشر الشائعات –وهى داء وبيل- وألا يروجها؛ إذ يعمد أحدهم إلى إطلاق شائعة، سرعان ما يتلقفها الآخرون، والأعداد بالآلاف، وربما بالملايين، فكأنها حقيقة، ولا يبحث مُطْلِقُها إلا عن نجاحه فى وصولها لأكبر عدد من المتابعين، وربما أضرت أفرادًا ومؤسسات لا حصر لها، ساعده فى ذلك الذين تداولوها دون تحقيق أو تمحيص، فشاركوه الإثم، وسجلوا أنفسهم ضمن من لا تُقبل شهادتهم، وهو ذنبٌ عند الله عظيم.
كما على الأفراد ألا يروجوا لفحش أو إباحية، وأن يتأدبوا فيما يكتبون، وألا يشيعوا الجهل، أو يروجوا للدجل، وألا ينشروا كل ما يصل إليهم إلا بعد فرز واختيار، وألا يتبعوا كل ناعق ولو كان حسابه من أبرز الحسابات، وأن يترفعوا عن سرقة الأفكار والمواد؛ فإن راقهم موضوعٌ أو فكرةٌ فمن المروءة أن ينشروه مشيرين إلى صاحبه؛ فهذا مما يعزز صدقيتهم ويرفع قدرهم.
وإذا كان صاحب حساب قد صار«إعلاميًّا»؛ فعليه الالتزام بمواثيق وآداب هذه المهنة، فلا ينشر «خصوصياته» إلا إذا جاءت فى سياق الموضوع، فلا يكون النشر فجًّا يتأذى منه الأقارب والأباعد، ولا يكون شاغلاً للمتابعين عن قضايا كبرى وهموم ثقيلة، وألا يكون مؤذيًا للتعساء والمحرومين. غاية ما عليه إذًا أن يتحرى التجرد فيما يكتب، وأن يكون اللهُ -تعالى- مقصودَهُ، فيؤجر على ذلك إن شاء الله؛ إذ فى الخبر: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
وعلى الأفراد أيضًا ألا يتعصبوا لقومية أو للغة أو لجنس أو لفريق؛ فتلك عصبيات مرذولة، لا يأتى من ورائها سوى الشقاق، والمطلوب هو الحض على الدين، ومكارم الأخلاق، واتباع الحكمة أنّى وُجدت، ولجم مسببات الشر، ودعم الإنسانية بشتى وسائل الدعم، ما لم يتعارض ذلك مع الشرع، وألا يكون صاحب الحساب عونًا -بأى صورة من الصور- للمروجين للفساد، أو الاستبداد، أو المحاربين لدين الله، أو الساعين لترويج الفحش والإسفاف.
والمقام لا يتسع للإسهاب فيما على الأفراد من واجبات لدعم هذا «الميثاق»، وربما تطرقنا إليها فى مقالات أخرى. ويبقى دور المؤسسات، ونعرض له سريعًا أيضًا، وأول واجبات هذا الدور هو وضع الخطط لتبنى قضايانا المصيرية، وأولها قضية الإسلام؛ نشره وحفظه ودفع خصومه وشانئيه، يتبعها قضية الدعوة والدعاة، وفروعها كثيرة، ثم قضايا التحرر الوطنى: الإصلاح السياسى وداخله الحريات والديمقراطية وتداول السلطة، والإصلاح الاجتماعى وداخله العدالة والتنمية، والإصلاح الاقتصادى وداخله الاكتفاء والنهضة.
ويتشارك الاثنان -الأفراد والمؤسسات- فى دعم لغتنا العربية على هذه المواقع، فما فتئنا نراها مهضومة الحق ضائعة بين أصحابها؛ وهذا دليل تردٍّ عام وتخلف لحق ببنيها، فلا نهوض بالذوق العام إلا بها، ولا فهم لقرآن أو حديث إلا لمن فهمها، والعلم بها يسير لمن يسر الله عليه. ويتشارك الاثنان كذلك فى فضح لجان الذباب الإلكترونى ومجموعات الأنظمة والعروش الفاسدة، وفى تبنى قواعد مهنية تكرِّس للغة جديدة للحوار. وتنفرد المؤسسات برعاية وحدات «أرشيفية» لتوثيق التاريخ، والرد على الشبهات، ورعاية الدعوة. كما تنفرد بحتمية وجود اختصاصيين قانونيين لملاحقة المجرمين على هذه المساحة الواسعة من الشبكات.
أضف تعليقك