بقلم.. عامر شماخ
وقعتُ على مجموعة مقالات لكتَّاب غربيين نُشرتْ خلال عامى 2018، 2019، تتحدث عن مفهوم السعادة، وحقيقتها، ومسبباتها -وقد لفتنى تـوافـق هـؤلاء الـصحـفـيين والــكتَّـاب -وجلُّهم علمانيون- مع ما جاء به الإسلام في هذا الباب، دون أن يكون بينهم وبينه صلة، فقلت: لعل الله ينير قلوبهم بهذا الدين الخاتم كما هداهم إلى الفطرة.
من بين هذه المقالات، مقالة للسيدة (لورى دوثويت، المحاضرة فى التدخلات النفسية فى جامعة «سنترال لانكشاير»؛ المصدر: موقع مجموعة المحادثة الإعلامية) -أكدت فيها أن «المرونة النفسية -تقابل مفهوم الرضا عندنا- هى المفتاح لسعادة أفضل ورفاهية أكثر، وأن الطريقة التى نستجيب بها لظروف حياتنا لها تأثير أكبر على سعادتنا؛ فوجود القلق والتوتر والحزن والكآبة لا يعنى أننا لا نستطيع أن نكون سعداء على المدى الطويل) -فى إشارة إلى التحلى بالصبر وعدم اليأس فى حال ورود المحن أو وقوع أحداث سيئة أو هموم شاغلة للنفس مقلقة للبال.
ويتفق (الدكتور سانجيف شوبرا- أستاذ الطب بهارفارد) مع السيدة (لورى) فى حتمية إيجاد مذهب جديد لمن يبحثون عن السعادة الحقيقية، أسموه (مذهب الرفاه)، ويعنى: إيجاد سعادة حقيقية ودائمة، تنبع من الروح، وتتفادى المحن والوقائع المؤلمة، وقد عبَّر (الدكتور شوبرا) عن ذلك بقوله: «إن تدفق السعادة لا يأتى من الظروف المادية أو الخارجية، مثل الملذات الجسدية أو الثروة أو السلطة، ولكن يأتى من العيش فى حياة مناسبة لروحك وبدون تكلف، ويأتى من أعماق الخير فى داخلك».
وفى تفاصيل هذا المبدأ تؤكد (لورى) أن وقوعنا فى المحن والشدائد تجربة يمكن أن تكون جيدة بالنسبة لنا؛ اعتمادًا على كيفية الرد عليها والتفاعل معها، فيمكن لهذه التجربة أن تجعلنا نتحمل الضغوط بمرونة، بل قد تدفعنا إلى اتخاذ قرارات فارقة فى حياتنا».
ويمكن تلخيص ما أشار إليه هؤلاء الكتَّاب لتحقيق السعادة فى: ألا تأخذك المصائب إلى خانة الحزن والانزواء والكآبة، مهما كان وقعها، بل عليك الاستفادة منها واتخاذ قرارات حاسمة لطى صفحتها. ولن يتم ذلك إلا إذا كنت متحلِّيًا بالتفاؤل، والرضى، والصفح والتسامح، والحب، والبذل والعطاء، وبألا تكون منّانًا، سريع الغضب، منكفئًا على ذاتك. وأن السعادة الحقيقية هى السعادة التى لا تزول، وليست فى المتع المؤقتة -أو المُهَدَدَةِ- مثل الثروة والجاه والنجاح فى العمل والثقافة إلخ. وأن السعادة لا تُشترى بالمال، وأن التفكير الإيجابى وعدم اليأس مهمّان لجلبها.
وهذا -لعمرى- ما جاء به الإسلام، فى أوضح صورة. وما قالوه إن هو إلا جزء يسير من المعنى المتكامل للسعادة فى ديننا الحنيف؛ فالمسلم الحق على بينة من أمر الدنيا التى لا راحة فيها، ولا حيلة فى الرزق، وأنها دار ابتلاء ومكاره، السعادة فيها وقتية، والمتع زائلة، وأن مفاتيح هذه السعادة فى يده، ليس فى الدنيا فقط، بل فى الآخرة أيضًا، التى هي الدار الحقيقية، أو دار المُقام. فبالإيمان والعمل الصالح والتحلى بالأخلاق الفاضلة والإكثار من ذكر الله -يحصل المسلم على سكينة النفس، واطمئنان القلب، وراحة الضمير، فيغدو إيجابيًّا مقبلا على الحياة، لا تغره سراء ولا تضره ضراء؛ مصداقًا لحديث النبى –صلى الله عليه وسلم-: «عجبًا لأمر المؤمن؛ فإن أمره كله خير، فإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
وإذا كان علماء النفس على اتفاق بأن القلق هو منشأُ وأُسُّ الأمراض النفسية جميعها، وهو ما يطيح بسعادة الإنسان، فقد عالجه الإسلام علاجًا عمليًّا حاسمًا، معتبرًا تلك الوسائل العلاجية من صميم الإيمان، فالمسلم على يقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه؛ لن ينفعوه إلا بما كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه؛ لن يضروه إلا بما كتبه الله عليه، وأن الأمر كله لله، وأن كل شىء عنده بمقدار، وأنه لا يعلم الغيب إلا هو، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن من رضى فله الرضا، ومن تسخَّط فلن يغير ذلك فى ملك الله شيئًا ويكون تسخطه على نفسه.
أما تحصيل السعادة فى الحياتين، الدنيا والآخرة، فلا يكون بجمع المال واكتناز الثروات، ولا بسلطة أو جاه، إنما يكون بالإحسان؛ (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل: 30]، وبالتماس الهدى واجتناب الضلال؛ (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124]، وبالإيمان والعمل الصالح؛ (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]؛ فإن السعادة الحقيقية ليست عن كثرة العرض ولكنها فى غنى النفس، كما لخصها الإمام البنا -رحمه الله- بقوله: «قرأت كثيرًا، وجرّبت كثيرًا، وسافرت كثيرًا فلم أر السعادة نابعة إلا من القلب».
وطلب الآخرة لا ينافى السعى للدنيا، فالله يقول (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا..) [القصص: 77]؛ إنما يُشترط ألا يتعلق بها قلب المؤمن فلا يرى غيرها فيصيبه بذلك اليأسُ والكربُ، والهمُّ، ولو جعلها فى يده فلم يتعلق بها قلبه فقد صنع سعادته الحقيقية، ونجا من بلاءاتها، ولا يمنعه ذلك من النجاح الدنيوى ومواصلة العمل، يقول النبى -صلى الله عليه وسلم: «إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، وهذا هو نهج الإسلام المتوازن الذى يقدِّر حاجات الإنسان ورغباته، لكنه يضع من الضوابط والسياجات ما يجعلها نافعة له ولغيره، فى دنياه وأخراه.
أضف تعليقك