أين يتوقف الكلام الطبي، وأين يبدأ الخطاب السياسي في موضوع فيروس كورونا؟ الشاهد أن الفيروس انتقل مبكرًا للغاية، وبسرعة خرافية، من كونه مشروع جائحة وبائية تشكل خطرًا على العالم، من دون تفرقة بين شمال وجنوب، أو غرب وشرق، إلى فرصةٍ لممارسة الاستقطاب السياسي، ومزاولة فنون الاستعلاء الحضاري والكيد الاقتصادي، وميدانًا فسيحًا للنزال وتصفية الحسابات.. باختصار، وجدتها أطرافٌ فرصة سانحة للهروب بجرائمها وفشلها وتخبطها إلى فيافي السياسة.
التنابز بالكورونا هو الشعار الذي ترفعه دول ضد بعضها بعضا، وتمارسه مجموعات من الأفراد كذلك من منطلقات عنصرية شوفينية كريهة، كما جرى في شارع أوكسفورد الشهير في وسط لندن مساء الاثنين الماضي، حين تعرض طالب جامعي من سنغافورة لاعتداء عنصري أدمى وجهه ورأسه من مواطن بريطاني مهووس بالعنصرية هجم عليه، وهو يصيح "لا أريد فيروس كورونا الذي تحمله في وطني". ومن المهم الإشارة إلى أن مواطنًا بريطانيًا آخر هو الذي تصدّى لهذه الممارسة العنصرية المقيتة، وصوّرها ونقلها إلى الميديا، مطلقًا جرس إنذار ضد هذا السلوك الهمجي.
في السياق، قرأت حكايات قريبة من هذا النوع من الحوادث في عواصم عربية، لكنها لم تصل إلى حد الاعتداء البدني، وإنْ تحمل اعتداءً نفسيًا على صينيين أو أشخاص يحملون ملامح صينية أو آسيوية.
في غابر الأزمنة، واجه العالم أوبئة وكوارث صحية اجتاحت البشرية، لعل أشهرها وباء الطاعون الذي فتك بنحو ثلث سكان القارّة الأوروبية منذ نحو سبعة قرون، وطال بلدان الشرق الأوسط، ثم عاود الكرّة في قرون لاحقة. وفي هذا كتب الفيلسوف والأديب الفرنسي الأشهر، ألبير كامو، روايته الخالدة "الطاعون"، والتي دارت أحداثها في مدينة وهران الجزائرية في القرن الماضي.
حين جاء الطاعون، كان العالم غارقًا في الحروب والصراعات، كما هو حاصل الآن، وكانت الإمكانات أقل بكثير، وبما لا يمكن مقارنته بما هو متوفر الآن في ظل التطور الرهيب في العلم والطب والتكنولوجيا، غير أنه كان عالمًا أكثر إنسانيةً وأقل رغبةً في تدمير بعضه بعضًا، وأضعف قدرة على التنافس في إنتاج الخراب وتصنيعه، وممارسته بالطاقة القصوى.
صحيحٌ كان هناك شمال وجنوب وشرق وغرب ومطامع استعمار ومطامح استعلاء وهيمنة، إلا أن ذلك كله لم يتطور إلى حدود الرغبة في إبادة أمم وأجناس وثقافات وأزالتها من الوجود.
من هنا، يتمتع فيروس كورونا، وعلى الرغم من هشاشته وضعفه، بوضعيةٍ تجعله أقوى من الطاعون القديم، إذ يهاجم عالمًا يمور بالكراهية والرغبة في الفناء، لا يريد أن يتخلص من ضعفه أمام نوازع الاستقطاب والمكايدة، ويستقبل الوفاء بترحابٍ شديدٍ، بوصفه سلاحًا مجانيًا في صراعاتٍ ثنائيةٍ وجماعيةٍ قائمة، من دون أن يفكر أحد في أن الكل في فوهة خطر واحد، لا نجاة منه إلا بالتعاون والتضامن، وتأجيل النزاعات الممتدّة، والتداعي لمواجهة هذا الخطر بشكل جماعي، وخصوصًا أنه لا يعجز عن عبور الحدود الجغرافية، ولا يعترف بالفوارق الاقتصادية والحضارية، ولا يختار ضحاياه على أساس المستويين، الاجتماعي والثقافي.
أدرك أن ثمّة احتمالات تهويل تضخيم في حجم الأزمة وخطورة الفيروس من حكومات وشركات تستثمر في الهلع، وأثق أيضًا أن وباء الطغيان والاستبداد أشد فتكًا، وبالأرقام الموثقة من الفيروسات القاتلة.
وفي ذلك فإن فيروس بشار الأسد قتل أكثر من نصف مليون إنسان في سورية على مدى ثماني سنوات، كما أن وباء الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي حصد أرواحا خلال ساعتي زمن في ميدان رابعة العدوية، يفوق عددها ما حصده "كورونا" من أرواح على مستوى العالم كله.. وهو ما يفعله خليفة حفتر في ليبيا والحوثيون والسعوديون والإماراتيون في اليمن، والاحتلال الصهيوني في شعب غزة.
هذا كله ثابت ومعلوم بالضرورة، لكنه لا يمنع من أن نطالب بفصل "كورونا" عن السياسة، قبل أن يجرفنا الطوفان جميعًا.
أضف تعليقك