المفكر الإسلامي الكبير دكتور محمد عمارة رحمه رجل ذو قلم سيال، فقد خط قلمه كتبا زادت على المائتي كتاب، وقد رحل عن دنيانا وترك مشاريع فكرية وعلمية أخرى، أوصى أن يكملها تلاميذه من بعده. والحديث عن الجانب الفكري والعلمي لعمارة حديث يطول، لكني في هذا المقال أريد أن أنوه إلى أمر يغيب عن ذهن كثيرين ممن لم يطلعوا على تراث الرجل، أو اطلعوا دون أن ينتبهوا لهذه المسألة، وذلك بسبب الغبار الكثيف الذي أثير حول هذه النقطة، وهي: رموز التنوير في العصر الحديث: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، رفاعة الطهطاوي، مصطفى كامل، قاسم أمين، سعد زغلول، طه حسين، علي عبد الرازق، محمد حسين هيكل، وغيرهم.
لقد حددت هذه الأسماء خاصة، لما أثير حولها من غبار وكلام، جعل الشبهات تحوم حول صلة هؤلاء الأعلام بالفكر الإسلامي، ومدى ارتباطهم به، فقد ظهرت كتابات بدأت في الانتشار بعد ظهور الصحوة الإسلامية في سبعينيات القرن العشرين، وبخاصة كتاب الدكتور محمد محمد حسين: (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، والذي تناول فيه عددا من الرموز المذكورة، وتبنى رؤية القدح في هؤلاء الأعلام، من حيث موقفهم الديني، وتبنى هذا الموقف كذلك بعض الكتاب المعاصرين مثل الأستاذ أنور الجندي، وغيره.
فجمال الدين الأفغاني شيعي، وهو ومحمد عبده انضما للماسونية، والطهطاوي كان متغربا، والكواكبي كان أقرب للعلمانية، وقاسم أمين لم تكن أفكاره إسلامية، وسعد زغلول كان ليبراليا، وطه حسين تنصر في فرنسا في كاتدرائية، وموقفه من القرآن كان موقفا سيئا، وهادما للثوابت، وعلي عبد الرازق بكتابه: (الإسلام وأصول الحكم) تعدى على ثابت كبير من الثوابت، ولم يتب من كلامه، ولم يتراجع عنه، وهكذا، أخرج هؤلاء الكتاب من زمرة المفكرين الإسلاميين.
والعجيب أن تلقفهم التيار الآخر، ورحب بهم، واحتفى بفكرهم وكتبهم، وأعلن أنهم رموز للتنوير، وأنهم ليسوا إسلاميين، وليقتصر التنوير على فئة محددة، ومن عداهم من العلماء والمفكرين فهم الظلاميون، والجامدون المتشددون.
لم يخرجوا
في هذه الفترة قام الدكتور محمد عمارة بعمل منجز تاريخي وفكري مهم، وهو جمع الأعمال الكاملة لعدد من هؤلاء الرموز، وأضاف إلى عمله أن كتب دراسات وبحوثا ومقالات حولهم يبين أنهم لم يخرجوا عن دائرة الفكر الإسلامي، ولا الاهتمام به، فكان الإسلام منطلقهم، وكان الإسلام مرجعهم، ومن شذ في موقف، أو في مرحلة تاريخية من حياته، سرعان ما عاد عنها للإسلام بثوابته وفكره.
ولو لم يكن لعمارة من جهد علمي سوى جمع أعمال كل هؤلاء الأعلام لكفاه، فقد جمع لهم كل ما كتبوه، من كتب، وبحوث، ومقالات، ما نشر منها وما لم ينشر، فصارت أعمالهم ميسورة لمن يريد قراءتها والبحث فيها، أو عنها، وعن صاحبها.
ولكن عمارة فعل ما هو أكثر، فقد استخرج من هذه الكتابات ما يؤكد خطأ النظرة التي شاعت عن موقف هؤلاء الأعلام، وهذه المدرسة الفكرية الكبرى من الإسلام وفكره ونظامه، وأنهم لم يعادوه يوما، ولم يخرجوا عنه قيد شعرة، بل داروا في دائرة الفكر الذي يقبل النقاش والحوار، ومن شذ عاد في أخريات حياته تائبا منيبا إلى الله.
فلأول مرة نقرأ عن سعد زغلول أن أول مؤلفاته كان كتابا في الفقه الشافعي، كتبه وهو طالب في الأزهر، وكتب اسمه بهذا الوصف: الشيخ سعد زغلول، وأن سعدا لم يكن علمانيا يتخذ موقفا معاديا للشريعة، ولا لثوابتها، بدليل موقفه من كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق، وأنه قال معلقا عليه: وماذا نفعل لو لم يفهم البقر؟! يقصد بذلك من لم يفهموا أن الإسلام: دين وسياسة.
بل حتى شعار ثورة 1919م، والذي أراد البعض أن يجعلها ثورة ليبرالية أو علمانية، دلل عمارة على أن جماهير الثورة، وقادتها، كانوا ينتمون للفكر الإسلامي، وعلى رأسهم سعد زغلول، وأن الأقباط الذين شاركوا فيها لم يكن بينهم والفكر الإسلامي عداء بل تصالح كبير، وأن عبارة سعد زغلول: الدين لله، والوطن للجميع، ليست عبارة خاطئة، بل صحيحة، ودلل على صحتها في مقال من مقالته في جريدة الشعب، في عموده الصحفي: هذا إسلامنا.
وطه حسين الذي أشيع عنه أمور كثيرة في موقفه من الثوابت، نفى ذلك تماما عمارة في عدد من كتبه ومقالاته، وأذكر في مكالمة بيني وعمارة ودار الحديث عن طه حسين، فقال لي: يا عصام إذا أردت أن تعرف آخر ما انتهى إليه طه حسين، اقرأ كتابه: (مرآة الإسلام) ففيه تراجع كامل عن كل فكرة قالها في مطلع حياته الفكرية، وعاد إلى كل الثوابت. وهو ما جعله يكتب كتابا كاملا عن طه حسين.
أما اتهام الأفغاني ومحمد عبده بأنهما كانا ماسونيين، فقد دحض هذه الشبهة تماما، فقد انضما إليها وكانت في ذلك الوقت جديدة لا يعرف عنها أحد ما عرفه المسلمون فيما بعد من تفاصيل عنها، ولما تبين لهما خطورتها، تركاها، بعد أن خدعا فيها من باب شعارها: الإخاء والمساواة. ونفى تهمة تشيع الأفغاني، وبين أنه سني.
وبين عن توجه الكواكبي وهو عالم مسلم، وليس علمانيا، يقول بفصل الدين عن الحياة، بل كتابه: (طبائع الاستبداد)، وكتابه: (أم القرى) ومقالاته الأخرى التي جمعها عمارة في (الأعمال الكاملة للكواكبي)، تنطق بفكر الرجل الإسلامي، فالإسلام يكره الاستبداد، والقرآن الكريم أطلق حملة شعواء على الاستبداد والمستبدين، والظلمة والظلم، ولم يهادن في هذا الأمر، وهو ما انطلق منه الكواكبي.
وأما الشيخ علي عبد الرازق الذي هلل له وكبر العلمانيون، فرحين بكتابه: (الإسلام وأصول الحكم)، وبخاصة فكرته: لا حكم في الإسلام، فقد بين عمارة أن عبد الرازق تراجع عن هذه الفكرة، وقال: إنما هي كلمة ألقاها الشيطان على لساني. وجاء بتفاصيل أخرى كثيرة في الموضوع بينها عمارة في أكثر من كتاب له، وبخاصة كتابه: الإسلام والسياسة. مما جعل شيخ الأزهر الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق يكتب مقدمة له، ويتبنى الأزهر الكتاب ويطبع منه طبعة لمجمع البحوث الإسلامية.
الإسلام أصل التنوير:
بل فعل عمارة ما هو أكثر من استرداد هذه الرموز التنويرية للفكر الإسلامي، بل أراد أن يثبِّت في أذهان الجميع، أن أصل التنوير: الإسلام، ففي القرآن سورة النور، والله عز وجل يقول: (الله نور السماوات والأرض)، فالنور والاستنارة والتنوير مصطلح قرآني إسلامي، فقام بالإشراف على إصدار سلسلة من الكتابات الإسلامية المهمة تحت عنوان: سلسلة التنوير الإسلامي.
هذا جهد من جهود عمارة رحمه الله، وبقية الجهود تحتاج لمقالات منفصلة، سواء جهده في رد الشبهات عن الإسلام، أو جهوده في كتابة كتب عن رموز الحركات الإسلامية، أو الحركات الإسلامية ذاتها، ومناهجها، وما لها وما عليها، رحم الله عمارة وجعل ما قدم في ميزان حسناته.
المقال للشيخ عصام تليمة
أضف تعليقك