بقلم: سليم عزوز
ليس لنا في السودان أكثر من الحكم العسكري المصري، هذا إن كان لنا ثمة شيء فيه، في وجود الطغمة العسكرية الحاكمة، التي هي أقرب من القوم في القاهرة من حبل الوريد!
ومن هنا، فمحاولة تحويل السودان إلى شماعة ليلقي عليها أهل الحكم في مصر فشلهم في سد النهضة، هي من باب النصب وإدخال الغش والتدليس على الرأي العام، وتصوير الأزمة كما لو كان سببها أن السلطة السودانية متآمرة على القاهرة، بما مثل دعماً للجانب الإثيوبي جعله يتصرف بهذه الشدة، وينسحب من المفاوضات في واشنطن، ويعلن أنه سيقوم بالبدء في ملء السد بعد أربعة شهور.. تماماً كما كانت المحاولة القديمة ذات مفاوضات فاشلة، بتعليق الفشل على الدوحة الذي قال إعلام الانقلاب العسكري إنها من تمول بناء السد، ولم يكن هذا صحيحاً، فتمويل البناء تقوم به السعودية والشقيقة الكبرى "الإمارات"، ولم يُقدم البنك الدولي على عميلة التمويل إلا بعد إعطاء السيسي موافقة مصر مكتوبة على بناء السد، تمثلت في توقيعه على اتفاق المبادئ!
لقد أذاعت وكالة أنباء الشرق الأوسط، أن الدولة السودانية تحفظت على قرار صادر من اجتماع وزراء خارجية الدول العربية انعقد في جامعة الدول، ينص على انحياز العرب لمصر في الموقف من إثيوبيا، ولأن ثورة قامت هناك، فالمعنى الذي يُراد تصديره أن السلطة الجديدة تأخذ موقفا ضد القاهرة، وهذا على غير الحقيقة!
هو والبشير:
فالعسكريون السودانيون ينحازون للحاكم العسكري في مصر، منذ حكم الرئيس البشير، الذي كرمه عبد الفتاح السيسي باعتباره أحد العسكريين الذين شاركوا في أكتوبر، كما أنه كان يشعر بالأمان معه. فإذا كان البشير ينتمي للحركة الإسلامية وهو ابنها وممثلها، وأنه تربى في مدرسة الإخوان المسلمين، فإنه لم يجد غضاضة في التحالف مع السيسي، ولم نسمع عنه أنه استغل علاقته به في تخفيف الإجراءات غير الإنسانية على سجن الرئيس محمد مرسي، أو يطلب منه أن يكون رحيما بشخصيات طاعنة في السن وقد تكالبت عليها الأمراض، مثل المرشد العام السابق للجماعة، الشيخ مهدي عاكف الذي مات في محبسه، بعد أن تقرر أن يموت بالبطيء!
ولم يكن "الكوز" عمر البشير في مستوى أخلاق قادة للدول العربية من غير الإسلاميين، حرصوا والثورة المصرية في أوجها على زيارة مبارك في محبسه، وحرصوا على أن يعامل معاملة كريمة. وفي حكم الرئيس محمد مرسي وعندما انتقل مبارك من المركز الطبي إلى السجن، عرض ملك السعودية أن يدفع كل المبالغ المطلوبة من مبارك مقابل إخلاء سبيله!
ولم يحدث شيء من هذا من قبل عمر البشير، مع أن علاقته مع السيسي كانت عابرة للانتماء الفكري والديني، فالعقيدة العسكرية هي أكبر من أي انتماء آخر، ولهذا كان من الطبيعي أن تربطهما علاقة أسرية، إذ التقت حرم السيسي بحرم الرئيس السوداني في الخرطوم، في لقاء لا تخطئ العين دلالته!
ملف المصريين في السودان:
بل إن البشير، ونظراً لهذه العلاقة "العابرة للانحيازات الفكرية"، استغل هذه العلاقة في ملاغاة الشعور الوطني بالحديث حد الملل عن سودانية "حلايب وشلاتين"، ولم يصد النظام المصري ولم يرد، وبقي فقط ملف المصريين الهاربين من البطش للسودان، لكنه أبدا لم يعكر الصفو بين الحاكم العسكري هنا والحاكم العسكري هناك، بل إن عملية تسليمهم لمصر لم تكن مطروحة على جدول أعمال أهل الحكم في المحروسة!
ولم يكن من الجائز أن يسلم البشير هؤلاء ولم يرتكب أحدهم ما يستدعي تسليمه، ثم إنه كان بعملية التسليم غير المبررة سيكون قد قطع كل صلة له بالإطار الفكري الشكلي الذي يحرص عليه ومجموعته. وفي المقابل لم تحمله السلطة المصرية من أمره رهقا بطلب تسليمهم، وقد يكون الطرفان فكرا وقدرا، ووصلا إلى حقيقة الموقف، فالشباب الذين هربوا للسودان كان تهريبهم مصلحة للحكم العسكري، لأن تركهم في مصر كان سيدفع ببعضهم للانحياز لفكرة العنف، فجرى تهريبهم إلى "مخازن الجماعة في السودان"، حيث لا يسمحون لأحد أن يذهب بخياله بعيداً، ومن يفكر فعليه أن يغادر، في بلاد لا يعرف فيها أحد، ليموت بالجوع، وهو عقاب سينزل ضد من يخالفون أمر القيادة الصابرة المحتسبة!
ولم يكن العسكر الذي استلموا الحكم بعد اسقاط نظام البشير، ممن يختلفون مع النظام العسكري في مصر أو على خلاف معه، ولهذا فقد ارتكبوا جريمة اعتقال بعض الشباب الفارين من الرمضاء إلى النار، حتى لم تعد الخرطوم مكانا آمنا لهم. وتوافق العسكر في السودان مع العسكر في مصر ليس محل شك، بل إن قادة عسكريين من رجال البشير ومجموعته غادروا الخرطوم ويعيشون الآن في القاهرة في ثبات ونبات!
رغبة السيسي:
والمعنى أن محاولة تصوير النظام السوداني على أنه ضد مصر، ومنحاز ضدها في أزمة سد النهضة، هو كلام ليس في محله، والبشير هو ثالث ثلاثة وقعوا على اتفاق المبادئ، وهو نفسه الاتفاق الذي وقع عليه السيسي، والذي يعني موافقة مصر والسودان على بناء السد، فالتوقيع كان رغبة السيسي لأسباب ذكرناها من قبل. ثم إن الاستمرار في المفاوضات الفاشلة كان رغبة النظام المصري، فهل طُلب من السودان موقف مغاير من قبل ورفض؟!
لقد بدأ الادعاء بأن السودان باع القوم في القاهرة لأنه لم يحضر للتوقيع على اتفاق واشنطن، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ذهب المبعوث المصري ليحضر مفاوضات قالت إثيوبيا إنها لن تشارك فيها ولن توقع؟ ولماذا وقعت مصر؟!
وإذا كانت رعونة السلطة في القاهرة دفعتها للإقدام على هذه الخطوة، فلماذا تريد من السلطة السودانية أن تشاركها في هذه الرعونة، وقد أعلن الطرف الأصيل في المفاوضات أنه لن يحضر ولن يشارك؟!
لقد أقدم الحاكم العسكري على خطوة يستهدف بها "اللعب في المضمون" ليتمكن من إظهار نفسه على أنه في معركة مع إإثيوبيا، وعليه كان الطلب من إعلان الدول العربية أنهم مع حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، فهل السيسي جاد في ذلك؟ هل اتفاق واشنطن يضمن فعلا الحقوق التاريخية من مياه النيل؟ هل ستبقى نفس الحصة وهي 55 مليار متر مكعب سنويا؟ وهل يعقل هذا؟!
إن السودان لن يضار من سد النهضة، فلا جناح على الدولة السودانية إن وقعت على اتفاق المبادئ، لكن المشكلة في من سيضار من السد ومع ذلك منح موافقة مصر على البناء دون قيد أو شرط!
الدور الإثيوبي:
وقد شاهدنا الدور الإثيوبي في رأب الصدع في السودان بعد الثورة، وهو دور كان ينبغي لمصر أن تقوم به لكنها لم تفعل وتركت فراغا استغلته إثيوبيا، فكيف يُطلب من من السودان التضحية بعلاقة جادة لإفساح مجال للنظام المصري للعبث؟!
ولماذا لجأ الحكم العسكري في مصر لحشد الدول العربية في غير ما قتال، في حين لم تفعلها إثيوبيا وتطالب باجتماع مماثل للدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي؟ ولمصلحة من إثارة هذه النعرات الآن بين الدول العربية، والدول الأفريقية غير العربية؟!
إن الحكم العسكري في مصر ليس جاداً في شيء، فلماذا يطلب من الحكم السوداني أن يشاركه في تحدي الملل وإضاعة الوقت وإحداث الفرقة بين الدول، وهو يعرف هدفه تماما؟ فليس هو على خلاف مع إثيوبيا، وفي عز الأزمة إذا بالسيسي يجد لديه فراغا فيعلن تضامنه مع كوريا الجنوبية في مواجهة فيروس كورونا ولا نعرف كيف سيتضامن! ولماذا كوريا الجنوبية بالذات والفيروس ضرب كثيرا من دول العالم ومن بينها مصر أيضا؟!
لا بأس، فليست مصر "قليلة الحيلة" ليتلخص كل دورها في طلب مساندة الدول العربية في محنتها، فعلى أهل الحكم فيها أن يلغوا الموافقة على اتفاقية المبادئ إن كانوا صادقين، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فكيف يطلبون من السودان التورط في مشكلات بلا معنى وإلا تم تصوير الموقف على أن إسرائيل تقف وراء الموقف السوداني بعدم مساندة بيان وزراء الخارجية؟ وهل إسرائيل ضد السيسي؟!
متى يتوقفون عن العبث؟!
أضف تعليقك