عاد عبد الفتاح السيسي بعد غياب كان سبباً في فتح الباب واسعاً للقيل والقال وكثرة السؤال حول أين هو؟!
وقد تلقيت عرضاً بالكتابة عن هذا الغياب، في نفس اليوم الذي سألني فيه صحفي عن سبب غيابه، واعتذرت لصاحب العرض وصاحب السؤال، لأنني كنت على ثقة من أن ظهوره صار وشيكاً، فقد خضع الوزراء وقادة السلطة للفحص من الفيروس، ولم يكن لهذا دلالة عندي إلا أنه قرر أن يجتمع بهم. وتوقعت أن يكون هذا بعد يومين (في يوم السبت)، وأن اللقاء سيكون بدون كلام أو تصريحات، فلما فعلها كتبت أن هذا لا يكفي وأننا نريد قصة لا مناظر، بحسب تعبير رواد السينما قديماً، في السؤال حول طبيعة الفيلم المعروض: "قصة أم مناظر"؟، ولم يكذب السيسي خبراً وظهر في اليوم التالي (الأحد) في اجتماع مع أركان حكمه، روعي فيه أن يجلسوا على مسافات متباعدة منه، أخذاً بالأحوط، فمن خاف سلم!
كان عندي كلام كثير يمكن قوله في المقال أو في الإجابة على سؤال الزميل، وهو كله قائم على التحليل، وليست عندي معلومات من مصادر وثيقة، لكن أي كلام كان سيفسره البعض تفسيرا تعسفياً وبما تهوى الأنفس، حتى إذا ظهر السيسي أصيبوا بالإحباط، واعتبروني قد ضللتهم. والجائع يحلم بسوق الخبز، وقد قرأت تعليقاً لأحدهم يقول إنني قلت إن السيسي مريض، ولم يكن هذا صحيحاً!
عقدة الإذاعة المدرسية:
غياب السيسي كل هذه الفترة كان جديداً عليه، ومنذ شهرين تقريباً وهو في غياب متقطع، يظهر ويختفي، ويقطع غيابه بظهور سريع، أحيانا يكون صورة ثابتة (مناظر)، ولا تذاع له تصريحات أو "قصة" وهو المدمن للميكروفون، وكأن من أحلامه التي حالت ظروفه دون تحقيقها أن يكون من نشطاء الإذاعة المدرسية، فلما حُرم من هذا، تحول الأمر عنده إلى عقدة!
كتب أنيس منصور ذات مرة، أنه عندما صعد للتكريم بعد تخرجه في الجامعة لأنه الأول على دفعته، انفجر حذاؤه البالي مما أثار ضحك الحاضرين، فتسبب هذا في عقدة له، دفعته لأن يقتني عندما صار موسراً عشرات الأحذية. وقال لي الدكتور فرج فودة نفس الواقعة ونفس العقدة، ولا أدري إن كان هذا حدث معه فعلا، أم أنه تأثر بواقعة "أنيس"، لكن اللافت أنهما تخرجا في نفس الجامعة (عين شمس)، تخرج الأول في قسم الفلسفة بكلية الآداب، وتخرج الثاني في كلية الزراعة!
ومهما يكن، فمن الشائع جداً التنفيس عن العقد النفسية بهذا الإسراف، وربما لهذا يسرف عبد الفتاح السيسي في الإمساك بالميكروفون، لأنه لم يُمكن من أن يكون من نجوم الإذاعة المدرسية!
ومع هذا، فقد توقف عن ممارسة هذه العادة، وإذ خرج للشديد القوي، كما حدث في لقائه مع الزعيم السوداني حميدتي في زيارته للقاهرة، فإنه لا يصرح ولا يعقد مؤتمراً صحفياً!
وقد سبق لي أن لفتُ انتباه السيسي وهو في حالة ظهور دائم ويومي، بأنه سيكون سبباً في مشكلة لنفسه، لأنه بحكم الطبيعة البشرية، وما يجري عليه من تعب ومرض، سيكون غيابه مثيرا للانتباه، لكنه كان سعيد باللعبة الجديدة، فكان لا يكل ولا يمل، فيعقد اجتماعات الشباب بشكل متكرر ولأيام، يتحدث أكثر مما يستمع، ويوجه أكثر من أن يناقش، ويصدر الأوامر ولا ينتظر إلا الكلمة العسكرية المتوارثة: "تمام يا أفندم"، ولا أدري لماذا يبقون عليها وهي من مخلفات الوجود العثماني في مصر، لا سيما بعد أن وصل بهم الانتقام من هذه المرحلة حد إلغاء اسم سليم الأول من أحد شوارع القاهرة، وأوشكوا أن ينسبوا أنفسهم لسلالة الضحية طومان باي، لولا تحذيرنا لهم بأن جدهم هذا من المماليك!
مرض السيسي:
تقارير صحفية أذاعت أن السيسي أجرى عمليتين جراحتين في المعدة، وتبين أنه مصاب بأورام حميدة، وأن العملية الأولى أجراها قبل جنازة مبارك، وهذا ما يفسر عدم استمراره طويلا في الجنازة فكان حضوره وانصرافه "صد رد"، فلم يصل الجنازة، ولم يأت للعزاء، وأوفد السيدة قرينته لتعزي حرم الرئيس مبارك. وقد أجرى العملية الثانية بعد الجنازة، وأن غيابه طوال هذه الفترة هو بسبب شعوره بمتاعب!
ولا أستطيع أن أنفي أو أؤكد هذه التقارير، وكثير منها يعتمد في حال عدم صحته على أن جهة أخرى لن تنفي، لكن هذه التقارير اهتمت بحبكة الشكل، فروعي أن يظهر السيسي في أي وقت ولو في نفس يوم النشر، ولم تهتم بحبكة الموضوع، فلا إجابات على عدد من أسئلة الخبر المعروفة، فلم تكتب اليوم بالضبط الذي دخل فيه غرفة العمليات في الأولى والثانية، ومن اسم الجراح الذي أجراها له. ودائما مع مثل هذه الأخبار نكون أمام لحن واحد وتنويعات مختلفة، فهناك من لعبوا على نفس اللحن بمعلومات إضافية، تنسب في العادة لمصادرة مطلعة، أو عليمة، خصت بها هذا الشخص أو ذاك، فلما كتب أحدهم أن العملية أجريت في مستشفى المخابرات بكوبري القبة، قلت آن لأبي حنيفة أن يمد قدميه، فهو ليس مستشفى كبيرا ليستقبل السيسي، لكنه كبير في نظر كاتب هذا الخبر!
شرعية تمرينات الصباح الرياضية:
لم "يتعود" المصريون على غياب السيسي، ولم "يعودهم" هو على ذلك، والذي اعتبر أن شرعيته قد ينال منها غيابه، فكان يحضر ليؤكد أنه الرئيس، أو يصدق أنه كذلك، فهو يقول لهم لا تسمعوا كلام أحد غيري، لكن عندما صارت هناك أهمية للكلام اختفى. والقادة في الدول الكبرى ظهروا ليواسوا شعوبهم ويؤكدوا وقفوهم معهم في مواجهة المحنة التي تواجههم ولو بمجرد الظهور وإعلان العجز، "فلا يقدر على القدرة إلا القادر"!
لقد أرسل السيسي وزيرة الصحة إلى الصين، ومن الطبيعي أن يلتقيها ليسمع منها تقريراً عن الزيارة التي تبدو مهمة من وجهة نظره، لكن لم ينشر أنه التقاها، فهل لم يكن يسلم بصحة الإجراءات الطبية التي خضعت لها في مطار بكين ومطار القاهرة، أم هناك من كان يمنعه من اللقاء والظهور؟!
لقد ظهر بعد أن تعالت الأصوات تسأل أين هو، وقال كلاماً باهتاً، وقدم الشكر للحكومة لموقفها في أزمة السيول التي ضربت البلاد، وكذا موقفها في مواجهة فيروس كورونا، دون أن يذكر شيئا عن سبب غيابه، وقد ذكرنا بذلك بأنه كان غائباً في أزمة الأمطار والمناخ السيئ الذي تعرضت له البلاد وتداعياته، قبل عشرة أيام، فلماذا تأخر شكره لها كل هذه الفترة؟!
هل كان مريضاً فعلا؟
هذا احتمال قائم، مع احتمال آخر أقل في الدرجة هو أن يكون ما منعه من الظهور هو الخوف الزائد عن الحد، أو أنه لم يكن لديه ما يقوله بعد أن تعرت البلاد بسبب الأمطار، وتم الكشف عن انهيار مشروعاته، التي أوكلها للقوات المسلحة وتباهى بها، فإذا بها هشيما تذروه الرياح!
بيد أنه كان غائبا قبل ذلك؟ فهل الاحتمال الأرجح أنه كان مريضاً فعلاً، بغض النظر عن صحة التقارير الصحفية وحديثها عن العمليتين الجراحيتين؟! فما مدى تأثير هذه على شرعيته؟!
أين نائب الرئيس؟
لقد أباحت له التعديلات الدستورية تعيين نائب أو نائبين، ولن تكون هناك مصلحة لهما من تغيبيه لأن الدستور يمنعهما من الترشح في حال خلو المقعد، إلا أنه لم يعين نائباً له، ولن يفعل، إلا وفق قواعد الضرورة كما فعل مبارك في الوقت الضائع!
ولم يطلب منه أحد وضع هذا النص، لكنه وضعه ثم زهد في الفكرة، لأنه دائما يضع حساباً لأسوأ الاحتمالات، ولا يثق في أحد ولو كان ذا قربى!
وإذا صح مرضه، وعلمت به دوائر حكمه، فسوف يؤثر هذا على هيبته، تماماً كما بدأ التفكير الجدي في خلافة مبارك، عندما ترنح وهو يلقي خطابه في البرلمان في سنة 2003. لقد تأكد للناس أنه بشر ككل البشر، ومن هنا كانت البداية الحقيقية للحراك ضده، ليس بسبب هذا فقط بطبيعة الحال!
فالحكم المستبد يتعامل مع الشعب على أن شرعيته يكتسبها لقدرته على العيش سليما معافا لسنوات طويلة، ربما إلى أن ينفخ في الصور النفخة الأولى. وفي الحالة التي نحن بصددها، فصاحبهم عود جماهيره على أن شرعيته تكتمل بقدرته على ممارسة تمرينات الصباح الرياضية وركوب الدرجات.
وإذا صح مرضه، فلن يكون هذا في مصلحته، حتى بالنسبة لدوائره القليلة، مع أن الجميع معرضون لأن يمرضوا، لكن الحاكم الطاغية له عالمه الخاص!
فمن يجرؤ على التفكير في البديل؟!
يكفي أن يكون هذا السؤال مطروحا على النفس وما تخفي الصدور.. صدور من حوله!
ومهما يكن، فهل يعاود من جديد الغياب، ليكون ظهوره قليلاً وفي أضيق الحدود شبيها بظهور السيدة العذراء في سماء القاهرة!
أضف تعليقك