فضح مرض فيروس كورونا (كوفيد-19) جهل الإنسان, وغروره, وعرَّى ظلمه وطغيانه، وتحدى -على صغره وحقارته- البشرية جميعًا, التى فرَّت مختبئة, فلا فرق بين رئيس ومرءوس, وغنى وفقير، ورجل وامرأة، وظالم ومظلوم، لم يستثن أحدًا.. وما يعلم جنود ربك إلا هو..
"مخلوق مهين" لا يُرى بالعين المجردة، فعل ما لم تفعله الحروب العالمية مجتمعة؛ حيث أشعل الفزع والذعر فى كل البسيطة، وقال للناس بلسان الحال: (من دخل داره فهو آمن)؛ فهو “غارة الله” التى طاردت نحو ثمانية مليارات إنسان فلم تصدها الطائرات ولا الأساطيل ولا الأسلحة الذكية، ولا المخزون الحربى المكدس لدى الدول، ولم ينفع معها وكالات تجسس ولا أجهزة استخباراتية. لقد أنسى الجميع أنفسهم، وأنساهم ما كانوا فيه من غنى وزخرف، وعجب وخيلاء؛ حيث فقدوا أمامه الناصر والمعين، والملجأ والمخبأ، وأدركوا أن بروجهم المشيدة لا تحول بينهم وبينه، حتى صرخ أحدهم قائلًا: (اليوم فقدنا حلول الأرض, فلنطلب الحل من السماء).
أين "الدكر" الذى هدد بنسف من يقترب من كرسيه بعدما رأى كبار جنده يتساقطون حوله؟ أين أسلحته وبوارجه و"قدراته" ومؤسساته التى خيبت أمل المغيبين الذين اتبعوه. إن الذى أرسل "كورونا" فاختبأ منها “الدكر” وسقط بسببها زبانيته الذين حرقوا وقتلوا المصلحين، لهو قادر على إفنائهم فى غمضة عين, لكنه “الإملاء” من صاحب الكيد المتين؛ ليشفى صدور قوم مؤمنين.. ولا زلنا ننتظر تلك الساعة, وانتظار الفرج عبادة الصابرين.
أيام قلائل، شخصت فيها الأبصار, وتوقفت العقول عن التفكير كما توقفت المصانع ووحدات الإنتاج، ولا حل فى الأفق -كشفت هذه الأيام عن جهل فاضح تعيشه البشرية، وغياب شبه تام عن أمور الآخرة، وأنانية مقيتة، وضعف يختبئ خلف قوة واهية، ووهم يعيشه الكبار المسيطرون، وتمثيلية رديئة يلعب فيها دور البطل من ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله, فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا, وقذف فى قلوبهم الرعب, وقد كشف فساد أنظمة, وفشل أخرى, وزيف وطنية ثالثة.
إنه ما من مصيبة تصيبنا أو بلاء يحلُّ بنا إلا من عند أنفسنا, جراء ما ارتكبناه من جنايات, وها هى البشرية التى حبسها “كورونا” وقد نافست الأقوام السابقين فى انحرافهم وضلالهم, وفجورهم وطغيانهم, ألا ترى المظالم من حولك؟ ألا ترى دماء تُراق كل ساعة؟ ونفوسًا تُزهق من دون ذنب؟ ولقد زوجوا الذكور الذكور والإناث الإناث, واستأجروا الأرحام, وخلطوا الأنساب, وجاهروا بالكفر والإلحاد.. ألا يستحقون ما نزل بهؤلاء الأقوام من خسف الأرض وإرسال الريح وأخذ الصيحة؟ بلى يستحقون والله، إلا أن الرحيم قد أخذ على نفسه العهد بألا يعذبنا بما عذب به تلك الأمم, غير أنه –تعالى- يرسل لنا بين الحين والحين منذرًا ومخوفًا، فلِمَ لا نستوعب الدرس؟
فليخش الجاهل المغرور وعد الله فيه كالذى جرى فى قوم عاد الذين استكبروا فى الأرض وقالوا (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت:15], وليكف الظالم الطاغية وليذكر قول الله (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآب) [ص:55], (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 83], وليأخذ المسلم العظة فليحذر السقوط كما سقط هؤلاء وهؤلاء, وليسمع لقول الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]
لقد آن الأوان كى تعود البشرية إلى خالقها, وألا تغتر بالحياة الدنيا, فإن أمر الله قد يأتيها ليلاً أو نهاراً فيجعلها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس, ولقد آن الأوان كى يتخلص العالم من قسوته, وانتكاس فكره، وانحراف أخلاقه، وظلمه وفساده, فإنه لا نجاة لمرتكبى هذه الفظائع إلا بالتوبة منها؛ ذلك بأن الله حى لا ينام, قيوم لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء, عدل لا يرضى بظلم ولا يقر بفساد, وأنه لا يفلت المجرمين (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 10- 14].
ويشاء الله أن يبدأ المرض فى الصين, ذات الأعداد البشرية الهائلة, والإمكانات العلمية المتطورة, والقدرات الاقتصادية والعسكرية التى لم يُر مثلها فى التاريخ؛ ليقطع الطريق على اغترارهم بتلك القوة التى تتصاعد يومًا بعد يوم. وهذا درسٌ ربما لا يستوعبه الصينيون أو غيرهم فى الغرب المتحضر, إلا من رحم ربى، لكنه درسٌ لمن يئس وقنط من المسلمين؛ ليدرك أن يد الله تعمل فى الخفاء, فتهدم الخطط أو تبنيها, وتضعف الأمم أو تقويها, فلا مجال ليأس مع العمل وحسن التوكل على الله, ولا خوف من قوة إلا قوة الله, وإذا لم يعد العالم إلى الله بعد هذا الحادثة فليعد هو إلى ربه أكثر حبًّا له، وأعظم شوقًا إليه, وكله أمل ورجاء فيه, فلقد علم أن قدرة الله لا تدانيها قدرة, وأن الإنسان لم يك شيئًا أمام الواحد الأحد, وأننا قد طالتنا الفتنة تطبيقًا لسنة الله فى العالمين (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25]؛ ولكى نأخذ الدرس والعبرة.
أضف تعليقك