بقلم: أ. د. عبدالرزاق قسوم
لا يزال الوباء العالمي الفتّاك، الزارع للمزيد من الهلاك، يحدث الاضطراب والارتباك، ويتهاوى الناس بسببه، كما تتهاوى النجوم والأفلاك.
فقد أربك “وباء كورونا”، العقل الحصيف، والقلب الضعيف، والإيمان الخفيف، والإلحاد السخيف.
أهوى الاقتصاد بالاقتصاد العالمي إلى حافة الهاوية، وحكم على المجتمعات بالعزل في حجر الزاوية، وأعاق المتعبدين عن بلوغ الدرجات العالية.
بدد الوباء كل أنواع التجمعات، وقضى على كل ألوان الملذات، وحكم بالتشريد على العائلات، فطفح الكيل، وفاض السيل، وساء الحزن والويل.
رحماك ربي، ما سر هذا البلاء؟ وما حقيقة هذا الوباء، الذي نشر البأساء، والضراء، في الأرض وفي السماء؟
هل كل هذا لذنب اقترفناه، ولجرم ارتكبناه، أو لإثم جنيناه؟
وإذا كان ذلك كذلك، فكيف نفسر وقوع المؤمن والملحد معا، تحت طائلة المصيبة، وتجرع عواقب وآثار الوباء، القارات البعيدة والقريبة؟
إن مما لا جدال فيه، أن وباء كورونا، إنما هو الابتلاء، الذي جاء لتذكيرنا جميعا، على اختلاف مستويات فئاتنا، بأننا ضعفاء، ولا نعدو أن نكون كأوراق الخريف في الفضاء.
فقد طغت الإنسانية أيما طغيان، فكفرت برب الأكوان، وعاثت فسادا في البلدان، وتجردت من كل مبادئ القيم والإيمان، وها هي تحصد –بسبب ذلك- هذه الألوان من الهوان.
فالدول التي كانت عظمى تقزمت، والثقافات التي كانت رائدة تقهقرت، والأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، تبددت وتفتتت.
سوف يشهد عصرنا علينا، أننا أغلقنا المساجد في وجه الساجد، لا لذنب إلا لأن مجتمعنا المسلم يعج بالمفاسد، ويترنح تحت ضربات السيّئ من المقاصد.
فبين حماية الساجد، وغلق المساجد، ضاعت النوايا والمقاصد، فهل كان الحل الوحيد لمواجهة الوباء، هو غلق المصليات، وتغيير صيغة الأذان في اللهوات، وإجبار الجميع على الانعزال في البيوت والسكنات؟
أليس ذلك، هو آخر الدواء؟ أما كان الأجدى أن نبدأ بتوعية الساجد بثقافة التحصين ضد الوباء، وتعقيم المساجد بأصناف التطهير والنقاء، وامتناع المشتبه في أمره، من نقل الداء إلى الأصحاء؟
أما كان ينبغي لنا، أن نقبل على تعقيم المسجد، بعد استعمال وسائل التطهير، وتعزيز ذلك بالاستغفار والتكبير؟ وبدل أن نفر من بيت الله، نلجأ إلى الله ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾[سورة الذاريات، الآية 50].
إن عبارة “صلوا في بيوتكم” بدل “حي على الصلاة” في صوت المؤذن، لهي العبارة التي اقشعرت لها الأبدان، وذرفت لهولها الأجفان، وطرب لها شياطين الإنس والجان.
ذلك لأن هذه “التقليعة الدينية” لم تحدث طيلة القرن الماضي والقرن الحالي، لسبب بسيط، أننا لم نُبتلى بهذا الوباء الخطير الذي نعانيه، في قسوة، وشمولية، وفجائية.
فماذا عسانا –والحالة هذه- نستخلص من المعاني؟ وكيف نواجه هذا الفيروس الجاني الشيطاني، الذي شمل القاصي والداني؟
• أولى الدروس والمعاني، أن هذا الوباء قد أبان عن هشاشتنا، فكشف عوراتنا الاقتصادية، والعلمية، والسياسية، والأخلاقية، وبكلمة واحدة، هزال بنيتنا الإنسانية.
لقد بددنا الطاقات، وبعثرنا الثروات، وسرقنا، البنوك، والمصارف، والميزانيات؛ على حساب الهوية، والوطنية، والذات.
• ثاني الدروس والمعاني، أننا أغفلنا المخابر، والبحث العلمي، والعالي من الأكاديميات، فهمشنا الكفاءات، وغرّبنا الطاقات، واقتصرنا على الكميات، بدل الكيفيات.
• ثالث المعاني المستفادة، أننا لم نربط التكوين بالتأصيل، فأخرجنا لأوطاننا، أجيالا لا تكاد تبين الظلامية العقلية هي خاصيتها، والأبجدية الحضارية هي ميزتها، والتنكر للعقيدة هو أيديولوجيتها، ولك أن تجمع –يا قارئي العزيز- معادلة هذه هي مكوناتها، ليتأسس لك وطن هو من الهشاشة، بحيث لا يستطيع أن يواجه داءه ووباءه، فكيف له أن يجابه أعداءه وألدّاءه؟
• من الدروس المستخلصة أيضا، هذا التضامن الإنساني بين العلماني والإيمانيـ فالصيني يهب لنجدة الطلياني والإيراني، وأكرم بذلك من القيم والمعاني.
إن ما تعانيه الجزائر، يكاد ينسحب على كامل أجزاء الوطن العربي، والأمة الإسلامية، التي هي في نظر الجميع صارت كغثاء السيل.
والحل إذن؟ إن الحل يكمن في العودة إلى الذات بكل أبعادها، فتتحصّن بالإيمان، وهو المصل الذي يعصمنا من كل أنولع فقد المناعة، البدنية، والعقلية، والحضارية، والعقدية.
لقد رسم الإسلام لنا، سبل الخلاص، ومد لنا طوق النجاة، بدء بنظافة اليد، والعقل، والبدن، وانتهاء بطهارة الذمة، وعفة الضمير، والتزود بالوعي قبل السعي.
ورب ضارة نافعة، ولعل الله أحبنا حين ابتلانا بهذا الوباء، فجعلنا نعي ذاتنا، ونكتشف سلبياتنا، ونعيد النظر في جميع مخططاتنا وسلوكياتنا.
فليس العيب أن نسقط، ولكن العيب أن نبقى ساقطين، فلا نتعلّم من السقوط ما يساعد على النهوض من كبوتنا، وعلى حد تعبير نزار قباني:
نريد جيلا غاضبا
نريد جيلا يفلح الآفاق
ويكشف التاريخ من جذوره
ويكشف الفكر من الأعماق
نريد جيلا قادما، مختلف الملامح
لا يغفر الأخطاء، لا يسامح
لا ينحني، لا يعرف النفاق
نريد جيلا رائدا عملاق.
أضف تعليقك