لا يعرف المستبدّون من مفردات مواجهة فيروس كورونا سوى التكميم والتعقيم والتعتيم. تستوي في الاستبداد هنا حكومات وجدت في الوباء حليفًا مثاليًا لاقتطاع ومصادرة مساحات إضافية من الحريات والحقوق الشخصية، وأفراد لم يزحزحهم الفيروس قيد أنملة عن عنصريتهم وإقصائيتهم وأنانيتهم.
التكميم .. تلك الكلمة ذات الإيقاع الرائع في آذان المستبدين، يفهمونها، فقط، على أنها تكميم للأفواه، لا حماية للأنف من رذاذ الفيروسات. أيضًا، ينشطون في الاتجار في الكمّامات، فينتجون أردأها لبيعه بأعلى سعر، ويفرضون جبايات وغرامات فلكية على عدم تثبيتها على الفم، فيمتنع عن الكلام والتعبير والفضفضة والشكوى والنقد، ومن يفعل مصيره المعتقل، ثم المحاكمة، ليدفع في النهاية من عمره المسروق أصلًا ثلاث سنوات سجنًا وبضع مئات من آلاف الجنيهات، غرامة مادية.
في قاهرة عبد الفتاح السيسي، أفرجوا عن عشرين شخصًا من الأسماء الرنانة، لتشتغل بعدها ماكينة الاعتقال لتحصد عشريناتٍ أخرى من الأشخاص، منهم محامون وطلاب وأقارب نشطاء سياسيين، كلهم مواطنون عاديون عبّروا عن الألم من وحشية الوباء، وانتقدوا سوء الأداء بمواجهته، أو تحدثوا عن وقائع موت وخطر محدق في محيطهم، فكان أن صنفهم النظام خونة وعملاء ومروجي شائعات.. هذا النظام الذي كذب وما زال يكذب منذ اندلعت أزمة كورونا.
يسافر القمع جنوبًا، إلى خرطوم الجنرالات الممسكين بالحكم، فينشأ تحالفٌ ثلاثي بين جنرالات القاهر وجنرالات السودان المستجدين وكوفيد 19، فتشتغل آلة الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري للمصريين المقيمين في السودان، بعضهم طلبة جامعة، وآخرون هاجروا اضطرارًا من جحيم الانقلاب في مصر، ولم يكونوا يدرون أن الانقلاب سيفتح فرعًا جديدًا في الجنوب.
ينشر نشطاء سياسيون أنباء عن عمليات اعتقال عشوائي، تقترن بتعذيبٍ شديد وإخفاء قسري وحرمان من الملبس والدواء لعشرات المصريين في السودان، تحت إشراف مخابرات السيسي، وبالتعاون مع سلطات الخرطوم، في ظل تصاعد المخاوف من الترحيل إلى مصر.. هؤلاء الضحايا الذين تحدثت عنهم صحفية فاشية، بوصفهم من مصادر الوباء الذين يجب تطهير السودان منهم، وتعقيم البلاد بعد ذلك.
كان متصوّرا أن يجعلنا الوباء أكثر إنسانية، غير أن كثيرين يبدو أنهم على استعداد للتنازل عن الحياة، من دون التخلي عن العنصرية والاستعلاء باسم العرق أو الدين أو الجنسية.
في لحظة توحش الفيروس رحل فنان جميل، هو جورج سيدهم، صاحب الرصيد الكبير من المحبة لدى قطاعات هائلة من الجمهور المصري، والعربي، فكتبت بعض كلمات في رثائه ونعيه، والدعاء له بالرحمة، غير أن هذا لم يعجب بعضهم، وهم قلة، فاستنكفوا رثاء جورج، وطلب الرحمة له. اعترض صديقان "فيسبوك" على نعي كتبته في وداع الفنان، فلم أجد ما أرد به، اعتبرت أن مجرد الرد والنقاش مسألة عدمية أصلًا فقمت بإلغاء الصداقة.. لا أحب مصادرة رأي أحد، لكني لا أستطيع التعامل مع من يصادر رحمة الله التي وسعت كل شيء.
قريبًا من ذلك تصدمني، حد الفجيعة، عباراتٌ مكتوبة تختص المصريين والعرب، وحدهم ، بدعوات وتمنيات السلامة والنجاة من الفيروس في دول المهجر الأوروبي التي يعيشون فيها. أما الآخرون الذين استقبلوهم للعيش بينهم، وقاسموهم الخبز والمأوى وحق التعلم والعلاج، وحق التنفس والتعبير بحرية، فليواجهوا مصيرهم، بلا دعاء أو تمنيات.
فى إيطاليا وإسبانيا، حيث الوباء يفترس الأرواح بالمئات يوميًا، والعالم يشاهد، ويتفرّج، حد التواطؤ مع الفيروس، فتطلق الإيطالية فرانشيسكا ميلاندري، عبر صحيفة الغارديان، صرخة أنين بلغة تشعرك بالخجل مما تكتب، أو قل إنها تكتب كما ينبغي أن تكون الكتابة، وكأنها تراقص الموت بالكلمات عله يتمهل.
تقول فرانشيسكا في وصف مستقبلنا، نحن الذين نتفرّج على وحشية الوباء مع بشر مثلنا "المثقفون الذين لم تكن الأخبار تخلو منهم سيختفون، وتفقد آراؤهم بغتة أي قيمة، بعضهم سيلوذ بمنطق سيأتي مفتقرا تماما إلى الإحساس بالناس، فيتوقف الناس عن الإنصات إليهم. والذين كنتم تتجاهلونهم هم الذين سيتبين أنهم يبثون الطمأنينة والسماحة وأنهم أهل للثقة، وعمليون، وقادرون على قراءة المستقبل.
الذين يدعونكم إلى رؤية كل هذه الفوضى باعتبارها فرصةً لأن يجدد الكوكب نفسه سيساعدونكم على وضع الأمور في سياق أكبر. ولكن هؤلاء أيضا سوف تجدونهم مزعجين أشد الإزعاج: لطيف جدا، الكوكب الآن يتنفس على نحو أفضل، بسبب تناقص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لكن كيف ستدفع فواتيرك الشهر المقبل؟ لن تفهم هل حضورك ميلاد عالم جديد أمر يغلب جلاله بؤسه أم العكس".
مقال فرانشيسكا تجب قراءته عشرات المرات، لنتعلم كيف نكون بشرًا أسوياء، ونتساءل بأمل عن إنسان ما بعد كورونا.
أضف تعليقك