بقلم: عامر شماخ
يعدُّ حادثُ (تحويل القبلة)، فى النصف من شعبان بعد ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا من هجرة النبىﷺ إلى المدينة، من أجلِّ أحداث السيرة وأهمها، حتى أطلق عليه البعضُ: (عيد تحويل القبلة)؛ لفرح النبىﷺ وأصحابه بذلك، وقد نزل وحىٌ عالج ما تردد فى صدورهم من عدم ارتياح للتوجه إلى القبلة الأولى.
إن الأمة الوسط، الشاهدة على سائر الأمم، لا يصح أن تظل على تلك القبلة، وجهة اليهود والنصارى، بل المقبول وقد اكتمل الدين أن يكون لها قبلة تميزها، ولتكن قبلة الأب إبراهيم، التى يَقِرُّ لها الفؤاد، ويتميز بها الشرع، الذى وكما سلم من الشرك والتحريف؛ فيلزمه السلامة من التقليد والاتباع المذموم.
ولو علم المسلمون المعاصرون فضل هذا اليوم لأقاموا له الأحفال، ولأدركوا خطر التشبُّه بغيرهم، الذى هو أساس الهزيمة النفسية ثم الاستسلام، وإن تقلُّبَ وجه النبىﷺ في السماء راجيًا تغيير قبلته إنما يعبر عن معاناة صاحب الرسالة الذى حرّم الميوعة والمساومة وضعف الشخصية، أو السير على غير هدى؛ باعتبار أن المسلم يرى الأمور بمنظار واضح كرؤيته الجسوم في رائعة النهار، وصراطه مستقيمة لا غبش فيها فلا ينزلق لغيرها من السبل، ومثله ومثل غيره ممن تنكبوا الصراط مثل الحى والميت (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا…) [الأنعام: 122].
لم يمت محمدﷺ إلا وقد كمُل الدين، واستُوفِى الشرع، فلا عذر لمسلم أن يتبع سننًا غير سننه، وإن فعل فهو كرجل ضل فى فلاة فهو عرضة للمخاطر من كل جهة، ولا سلامة له إلا بالعودة إلى الطريق الصحيح والاستقامة عليه، وتوقى الحذر أثناء السير، وأن يوقن أن هذا هو طريق النجاة دون غيره، وإلا سيكون الانسلاخ عن الجماعة المسلمة التى بها يتقوى وعليها يعتمد.
وإن من ثوابت الجماعة المسلمة؛ الدعوة لصفاء التوحيد، ونقاء الفطرة، والاعتقاد بألا حكم إلا لله، الذى ليس لنا من دونه ولىٌّ ولا نصير، وأن دعاءهم فى سائر الصلوات: اهدنا الصراط المستقيم، أى التى لا عوج فيها ولا انحراف، ولا هوى ولا تقليد، ولا قيود ولا آصار.
وما زلّت أمتنا بعد رفعة إلا بعدما تولى قيادها ملوكٌ ورؤساءٌ اتخذوا الكافرين أولياء، أو اتبعوا الآباء والأسلاف والقوميات ممن ليسوا على نهج الإسلام، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، ففضلوا الخبيث على الطيب، ثم فشلوا وبارت تجارتهم؛ فمدوا أيديهم إلى الأتباع بالسؤال، فأملوا عليهم شروطهم، وفرضوا عاداتهم وتقاليدهم، وأمروهم بتنحية هدى الله؛ فاستجابوا فصاروا كما قال الشاعر: (نرقع دنيانا بتمزيق ديننا… فلا ديننا يعلو ولا ما نرقع)..
إن الضريبة الباهظة التى تدفعها شعوبنا العربية والإسلامية الآن؛ هى نتاج تسليم زمامنا لمن لا يعترفون بالقرآن دستورًا، ولا بالنبىﷺ قدوة، ولا يزالون يتشبهون بحكام الغرب ويقلدون حكوماتهم، وينقلون إلينا مناهجهم حتى صيرونا أمة تائهة شائهة، شباب خنع، ونساء كاسيات عاريات، ورجال فى سن الطفولة، وجهل فاشٍ، ورعونة قاتلة، كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة.
لقد كتب من اعتبروه (عميد الأدب العربى!) مسفهًا حضارتنا، معليًا شأن حضارة الغرب، داعيًا للاقتداء بها قال: (وأن نسير سيرة الأوربيين، ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء فى الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحَبُّ منها وما يُكرَه، وما يُحمَد منها وما يُعَاب).. وقد مضت عقود دون جنى أى ثمار لهذه التبعية، إلا (الحنظل)، وهل يقول عاقل إن التابع يمكن أن يكون شريكًا للمتبوع كما قال (العميد)، بل يظل عبدًا منكودًا أينما يُوجَه لا يأت بخير.
ولو اتبع هؤلاء الحكام أمر ربهم لعزُّوا وعزَّت شعوبهم (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى..) [طه: 123]، ولو حصنوا بلادهم من (الوباء الغربى) المسمى (حضارة) وأحيوا حضارتهم من جديد -وهذا يسير- لكانت لهم الصدارة والغلبة. مطلوب منهم فقط أن يتحرروا من قيود التبعية، وأن يشرعوا فى صناعة الفرد المسلم بالصفات المعهودة: أن يكون سليم العقيدة، صحيح العبادة، متين الخلق، حريصًا على الوقت، نافعًا لغيره، قوى البدن، قادرًا على الكسب، منظمًا فى شئونه، مثقف الفكر، مجاهدًا لنفسه.
وهذه الصفات نفسها هى التى حارب بها المائة من المسلمين الألف من عدوهم، وهى التى جعلت أمة بدوية لا تجيد سوى نصب الخيام، تصنع حضارة هى أقوى الحضارات وأرقاها، وقد ألقت فى مسامع الدنيا تفضيل الله وتكريمه للإنسان الذى عبثت به وأهانته الحضارات الأخرى. ولن تتغير أوطاننا من حال الفقر إلى حال الغنى، ومن حال الضعف والزراية إلى حال القوة والتمكين إلا إذا صححت وجهتها، ونهضت إلى قبلتها، وأيقنت بما قال الإمام الشهيد –رحمه الله- إن: (الإسلام دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا؛ فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء.
أضف تعليقك