تهلُّ علينا نسائمُ رمضان وقد اجتاحت موجاتُ الوباء أرجاءَ العالم كله، والتي يُتوقَّع أن يبلغَ أَوْجَهُ أو ذروتَهُ في رمضان، فتتعالى دعواتُ المضطرين المظلومين والمحاصرين: اللهم بلغنا رمضان، واصرف عنا الوباء والظلم جميعًا، فما أصابهم من ظلم الناس لا يقل - بل ربما يزيد -عما أصابهم من ابتلاء الله لهم بالوباء.
لقد كشف وباء كورونا عن فقدان شعوب العالم الثقةَ بالنظام الدولي؛ الذي تقوده الدولة المهيمنة المتفاخرة، ومعها الدول صاحبة المطامع والمصالح.. ديمقراطية كانت كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو غير ديمقراطية كالصين وروسيا، ومِن خلفهم مَن حالفهم أو ذلَّ لهم.
كما كشفت موجات الوباء المتتالية عن فشل المنظمات الدولية، كمجلس الأمن والأمم المتحدة، وما يتبعها من منظمات عالمية للصحة واللاجئين وحقوق الإنسان، أو منظمات إقليمية ضعيفة كالاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، كما أظهرت الجائحة افتقار المجتمعات البشرية - فضلاً عن نظم الحكم في الشرق والغرب - إلى قيم المصداقية والعدل والتعاون والتراحم، بعد أن عجز التقدم التقني ووسائل السيطرة عن مواجهة كائن دقيق يختلف العلماء على تصنيفه ضمن الكائنات الحية أم هو دون ذلك.
وحتى الساعة ما زال كثير من القادة السياسيين والمفكرين والمثقفين والمصلحين في المجتمعات المسلمة أو غيرها لم يتبينوا كثيرًا من السنن التي تحكم علاقة الإنسان بالكون وخالقه، إلا أنه ظهرت على استحياء دعواتٌ إلى ما عُرف بالدعم المعنوي في مواجهة الفيروس أيام الجمعة برفع الأذان، وأيام الأحد بإذاعة الموعظة الكنسية.
ومع اقتراب شهر رمضان لا يسعنا نحن الإخوان المسلمين إلا أن نكون ممن جاءوا بالصدق وصدَّقوا به من أمة الإسلام، فنستبشر ونبشّر الناس جميعًا بفضل ربهم على المؤمنين خاصةً والإنسانية عامة.. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة: من الآية 185).
فنحن بإذن الله من أكثر الناس استبشارًا بقدوم شهر القرآن، ونتطلع إلى عون الله فيه للسلامة من هذه الجائحة، ثم نحن من أكثر الناس ثقةً بأمتهم وأزهرها وعلمائه العاملين.
فلا يكن أحدنا إمَّعة.. يقول: إذا أحسن الناس أحسنت، وإذا أساء الناس أسأت، لكن يُوطّن نفسه، إن أحسن الناس يُحسن وإذا أساءوا يتجنب إساءتهم، وليصبر على ما أصابه من ظلم أو سجن أو وباء، وليصدع بالحق ولا يأخذه في دين الله لومة لائم، وحسبنا تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا ونحن مقبلون على أوج الوباء وبداية الصيام: "مَن لم يَدَعْ قول الزُّور والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ أن يَدَعَ طعامه وشرابه" رواه البخاري.
وإذا كانت موجات الجائحة قد حرمت الأمة صلوات الجُمع والجماعات في المساجد، وتوشك أن تحرمنا صلاة التراويح، وأن تمنعنا من الاعتكاف في المساجد؛ فإن الله تعالى يقول في شأن رمضان: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة- من الآية 185).
وكذلك سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القيام الفردي في البيوت، وهو الأصل في صلاة القيام، حتى إنه صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن الائتمام به في قيامه في بيته؛ خشية أن يُفرَض عليهم، وأمرَهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا لبيوتهم حظًّا من صلاتهم، قائلاً: "قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" رواه البخاري ومسلم.
فلنُعدَّ بيوتنا وأهلنا لصلاة الفروض المكتوبة جماعة، ثم للقيام والتهجد والدعاء، وتضرع أهل البيت جماعة أو فرادى، فكل ذلك من تيسير الله للأمة في رمضان.
أما عن الاعتكاف في رمضان..
فقد أجمع المتخصصون وأثبتت التجارب والخبرات أن من أنجع وسائل مكافحة الأوبئة هو الحجر الصحي للمريض، والعزل المنزلي، والتباعد الاجتماعي للمخالطين، وهذا ما توفره العبادة المشروعة في الاعتكاف إذا تمت في المنازل، فالمعتكف في منزله يفرُّ من قدَرِ الله إلى قدَرِ الله، ويتفرغ في معتكفه للذكر والصلاة والدعاء، ويلتزم بأحكام المعتكف في المساجد، ولا يخرج من معتكفه إلا لضرورة، ويجوز لمن يرعاه في معيشته أو صحته أن يزوره ويتابعه.
وإذا كان الشرع قد أجاز صلاة الفريضة في البيوت في زمن مكافحة الوباء، فأحسب أن لكل من يقع عليهم الحجر أو العزل المنزلي أن ينووا الاعتكاف في منازلهم، فتقوى مناعتهم، ويحصلوا على أجر المعتكف، وتتنزل عليهم السكينة، وتتغشاهم الرحمة، ويُكشف عنهم وعن الأمة شر الوباء.
وشهر رمضان شهر التعاون والتراحم والكرم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل عليه السلام القرآن، ولا شك أن التعاون والتراحم في رمضان يُعين الأمة على مكافحة الجائحة.
وما فشل النظام العالمي في مواجهة العواقب الاقتصادية للوباء إلا بضياع هذه الإنسانية، ولعل فيمن بقي فيهم الخير من الأمة أن يكونوا قدوة لأمتهم، فيؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وإن الله يرحم من عباده الرحماء.
فاستبشروا بقدوم رمضان، واستعينوا بالطاعات فيه على ما أصابكم من جائحة، عسى الله أن يجيب دعاءنا، ويتجاوز عن سيئاتنا، ويتقبل طاعاتنا، ويكشف عن الأمة والإنسانية الوباء والظلم جميعًا، ولعل البشرية من بعد ذلك كله تكون من الشاكرين (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ( البقرة – من الآية 185).
فاللهم بلغنا رمضان، وأعنَّا فيه على القيام والصيام وتلاوة القرآن، وارفع الوباء عن العباد، كل العباد، والبلاد، كل البلاد، وردَّنا وردَّ الناس إلى دينك مردًّا جميلاً.
والله أكبر ولله الحمد
الثلاثاء 21 شعبان 1441هـ = الموافق 14 أبريل ٢٠٢٠م
أ.د/ محمود عزت
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين
أضف تعليقك