بقلم.. عزة مختار
ليست المرة الأولي التي تتدخل فيها الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية (سلطة الحكم في البلاد) في إنتاج أو الاشراف على عمل فني يوضع على الخريطة في أهم موسم مشاهدة وهو شهر رمضان الكريم.
وليست المرة الأولي التي تحاول فيها رفع شأن كل ما هو تابع للقوات المسلحة أو الجهاز الشرطي بالدولة، بل والتحكم في نوعية أي أعمال أخرى تقدم من جانب (المدنيين) كما يحلو للنظام دائما أن يطلق عليهم، وتقديم صورة رجال الأمن بصورة لائقة.
ومع أنه منذ بداية انقلاب يوليو 1952 كانت الرقابة العسكرية مشددة على كل عمل فني يصدر ، إلا أنها المرة الأولى التي يصدر عمل فني بتلك الفجاجة ، وهذه الجرأة على واقع معاش شهده الناس جميعا سواء في مصر أو خارجها ، فربما يكون من المقبول أن يكذب الكاتب والمخرج والممثل والمشاهد أيضا في مشاهد تاريخية تغير واقعا لم يشهده الناس في تلك الحقبة ، أما أن تزور واقعا حاليا فتلك هي الجرأة ، و المدهش أن تصنع عملا تدخل تكلفته في الملايين من الجنيهات في الوقت الذي يعاني فيه الشعب الأمرين من الفقر والمرض في جائحة اضطر أن يواجهها بصدر عار وحده دون عون رسمي من الدولة .
الفن هو ذاكرة الشعوب، وهو رمانة الميزان ويجب أن يخرج من سيطرة أي سلطة ليظل محافظا على قوته المعبرة عن المجتمع، من المقبول فيه إنتاج أعمال تتبني وجهة نظر معينة، لكنها لا تحجر بسلطتها بأي حال من الأحوال على كافة وجهات النظر وتعتبر الأخرى معادية لها، أو تمثل فكرا متطرفا أو إرهابا، وهنا فقط يكون الفن هادفا، يقدم إلى المشاهد ويترك له حرية الحكم.
وما يحدث على الساحة الفنية اليوم في مصر من استغلال الشيوخ واللجان الإكترونية بمنصات التواصل الاجتماعي والبرامج التليفزيونية الفضائية للتبشير والدعاية المكثفة لمسلسل " الاختيار " الذي يحكي قصة الضابط المصري الشهير بـ " المنسي " والذي قتل في سيناء في إحدى عمليات المواجهة بين الجيش والمسلحين.
وأما الجانب التأريخي الذي يعرضه المسلسل ويركز عليه فهو الاتهام المباشر لجماعة الإخوان المسلمين بأنها وراء عمليات الإرهاب في سيناء ، والعسكري الذي قام بتنظيم العمل الفني نسى أو تناسى أن الإخوان المسلمين قد حصلوا في استحقاقات انتخابية شهد لها العالم بأكثر من خمسين بالمائة في مجملها من أصوات الشعب المصري ، ولا يوجد نصف شعب بالعالم ينتخب إرهابيين ويمنحهم أصواته وثقته لإدارة شؤون بلادهم بدءا من الانتخابات التشريعية ومرورا بالدستور وانتهاء بالرئاسة ، والمشاهد الذي يتابع العمل اليومي هو نفس المشاهد الذي يتابع عمليات القتل الممنهج في سيناء ، ويعلم جيدا أنه لا علاقة بين الجماعة وتلك العمليات ، خاصة بعد قتل رئيسهم وإعراضهم حتى عن التظاهر والإعراب عن أي غضب بسبب اعتقال معظمهم وهروب أعداد كبيرة منهم ، فلا يوجد بالشارع ما يمسي بالإخوان المسلمين ، ولا يملكون القدرة حتي علي تنظيم فعالية سلمية منذ العام 2015 ، وهو نفس المشاهد الذي يتابع الأداء الحكومي ويعاني من فشله المتراكم والذريع والذي ظل لسنوات يتحجج بالإرهاب ، والذي كلما خبت جذوته وكاد الناس أن ينسوه وانفضوا لمشكلاتهم الداخلية يعود من جديد ، فتحدث الانفجارات هنا أو هناك لتسكت الجميع بنفس الذريعة وهي محاربة الارهاب ، ليدخل من يطالب بحقه في حياة كريمة في زمرة الإرهابيين الذي يريدون إسقاط الدولة.
تلك الدولة التي يموت فيها المواطن بسبب الإهمال والتقصير، وليس آخر الضحايا هو هذا الصحفي الذي استطاع أن يسجل معاناته ومعاناة الآلاف غيره في انتظار الدور للتحليل ، وانتظار الدور في الإسعاف الذي ينقله ، فيموت قبل أن يصل لمكان العزل والعناية ، وهو نفس المواطن الذي دخل عليه شهر رمضان بغير عمل ، ولا دخل ، ولا تأمين ، ولا دولة تبحث عن حقوقه ، إلا من مبلغ خمسمائة جنيه لم يحصل عليها إلا القلة ولا تكاد تغطي يومين من احتياجاته ، فكيف تستطيع بكل آلتك الإعلامية ، وبكل ملايين الجنيهات التي تنفقها أن تحسن صورة مشوهة ومكشوفة أمام الخارج والداخل وأن تقنع نفس المواطن أنك بطل شريف مناضل من أجل الأرض التي يعلم نفس المواطن أنك تنازلت عنها بغير مقابل ، وما زلت تعتقل من طالب بعدم التنازل عنها ؟
إنه ليس " اختيار " ، إنما هو إجبار علي وجهة واحدة ، هي وجهة عسكرية فاشلة ، لا تقنع عقل ولا تشفي صدر ، ولا تملأ جوف ، ولا تقر عين ، ولا تغير قناعة أو واقعا معاشا .
إن ظاهرة " احتكار " النظام للفن في مصر تشوه الرسالة الفنية وتضربها من جذورها ، فهي ذاتها نفس احتكاره للإعلام ، فلا تجد بالدولة موقعا معارضا بحرية ، ولا صحيفة تناهض الفساد دون خوف ، ولا صحفيا يملك حرية الحركة وحرية الكلمة ، إن الصوت الواحد الذي يعد سمة من سمات البلاد منذ فجر الحكم العسكري إبان خروج الاستعمار الغربي قد أفسد كافة الرسائل المرنة السامية ليستبدلها بالقوة الغاشمة في مواجهة الشعب الأعزل لمجرد رغبته في العيش الكريم ، إن العقلية العسكرية لا تتبدل ولا يمكن تغييرها حتى إذا خلعت بزتها العسكرية ومثلت البلاد في المحافل الدولية باسم الرئاسة ، فالصحة والتعليم والاقتصاد والزراعة وحتى الفن يدار بطريقة واحدة ، طريقة الغشم وقوة السلاح ، ومنذ ذلك الحين صار الفن مطية لكل حاكم ، يزيف الحقائق والوعي ، ويهدم القيم ، ويخدم فقط سياساته التي تنبني على تغييب وعي الناس وتخديرهم حتى لا يفيقوا لحقوقهم فتكون نهايته .
إن ما يحدث في البلاد ما هو إلا عبث طارئ لا يمكن أن يستمر بدليل جلي هو رفض الناس وعدم إقبالهم علي متابعة ذلك العمل الفني المعيوب ، فاضطرهم للدفع بكافة إمكاناتهم للدعاية له حتي ولو بتوظيف مشايخ أزاهرة ، ويقيني أن هذا الوعي المتنامي لن يتوقف عند الفن ، وإنما سيمتد لنواح أخرى خاصة بعد جائحة كورونا التي ستغير سياسة العالم كله .
أضف تعليقك