“الدراما” كغيرها من الفنون الجماهيرية تخضع لرقابة الأنظمة الحاكمة في بلادنا التعيسة، بل هى مؤممة –واقعيًّا– مثل باقى الوسائل الإعلامية، تتحدث فقط بلسان المستبدين لفرض أباطيلهم على شعوب تتفشى فى جُلِّها الأمية.
وقد دأبتْ هذه الأنظمة على حشد الإمكانات الهائلة لخروج هذه الأعمال فى صورة جاذبة للمتلقين، وفي توقيتات متماشية مع خططها أو أزماتها؛ إما بحثًا عن ظهير شعبى يساندها، أو قطعًا للطريق على معارضة يقظة تكشف سوءاتها، وهي في كل أعمالها كما تحشد الإمكانات المادية والعناصر الفنية، تملؤها بالأكاذيب، وتسوّق لأفكارها بتزوير التاريخ، واختلاق الأحداث، أو الانتقاص منها، أو الزيادة عليها، بدعائية مفرطة، وخطاب عدائي مباشر.
ولو نزلنا إلى أرض الواقع للتحقق من صحة ما أسلفنا فأمامنا عملان؛ أحدهما محلي، مصري، والآخر عربي، وكلاهما مبهر بالنسبة للمشاهد العادي؛ لما أضيف إليهما من عناصر تشويق وجذب وما بُذل عليهما، لكنهما في الحقيقة وبشهادة الناقدين بهما الكثير من السقطات الفنية والدرامية، غير أن كتائب الذباب الإلكتروني نجحت فى ترويجهما؛ مرة تحت زعم (الوطنية) ومرة أخرى تحت زعم (دعم القيم الإنسانية), أما العمل المصري فهو مسلسل (الاختيار)، وأما العمل العربي فهو مسلسل (أم هارون) الذى أطلقوا على بطلته تهكمًا (أم شارون).
العمل المصري معلوم الجهة التي تقف وراءه، ومعلوم أيضًا غرضه الأساس؛ وهو دعم فكرة بقاء العسكر في السلطة، رغم الفشل والفساد والاستبداد، ويبدو هذا واضحًا لمتابعي المسلسل من خلال ربط وجودهم باستقرار حالتنا المدنية والسياسية وإلا صرنا (زي سوريا والعراق)، وهناك أغراض أخرى يلحظها المشاهد لعل أبرزها تشويه خصم النظام، الإسلاميين؛ ومن أجل ذلك فهناك جرأة عجيبة في الكذب والاسترسال فيه، بل تشويه مظاهر الإسلام ذاته؛ النقاب واللحية، وإظهار الإسلاميين في صورة منفرة، وأنهم: انتهازيون، متشددون، غوغائيون، مستعلون، مستبدون، حمقى, مندفعون.
وفي العمل العربي (أم هارون) تجد أيضًا التزوير والاستخفاف بالمتلقين واضحين؛ لأجل إيصال فكرة محددة، هي هنا فكرة (التطبيع) مع العدو، وهذه الفكرة صارت إستراتيجية عاجلة للحلف الرباعي الذي أخرج الانقلاب في مصر، ومن ثم إذا نظرت إلى تشكيلة فريق العمل ستجده عملاً سياسيًّا بامتياز, يمثل دول هذا الحلف، ويعبر عن رغبة مسئوليه في تسويق فكرة (شرق أوسط جديد) تتولى فيه “إسرائيل” زعامة المنطقة.
(أم هارون) تذيعه قناة “إم بى سي” السعودية، وتموله بالمشاركة مع شركة (الفهد) التي تملكها بطلته “حياة الفهد”، الفنانة الكويتية التي طالبت -عندما حلت أزمة كورونا- بإلقاء العمالة الأجنبية في الصحراء، والمخرج ومدير التصوير مصريان، محمد العدل وسامح الأمير، والمؤلفان شقيقان من البحرين، علي ومحمد شمس، والتصوير في الإمارات. وهو يحكي قصة ممرضة يهودية كانت تقيم في الكويت في الأربعينيات مع جاليتها، والمسلسل –حسب النقاد– يسعى وبإلحاح إلى تبييض وجه الصهاينة، وإلى تكريس فكرة التعايش معهم في بلادنا العربية، فضلاً عن إثبات فكرة الاضطهاد (غير الإنسانية) التي تعرض لها اليهود، وأنهم عاشوا المظالم في بلادنا كما عاشوها في أوربا، وإذا كانت أوربا المتحضرة قد عوضتهم عن المحرقة، فعلى العرب المحدثين أن يردوا إليهم اعتبارهم كذلك.
وأنا أتمنى أن يتطرق الغيورون، خصوصًا المؤرخين والنقاد الفنيين، إلى الحديث عن الأخطاء والمبالغات التي وردت في العملين، وهي كثيرة، والتحذير من الانسياق وراء مثل هذه الأعمال التي يُنفق عليها من أموال الشعوب لتزييف إرادتها, ولو فعلنا لجاءت هذه الأعمال بنتائج عكسية؛ فلا زالت شعوبنا تتعاطف مع من تهاجمه السلطات، ولا زالت تعادى من يعادي دينها، ولا زالت قطاعات كبيرة منها تجهل الحقائق، وربما جاءت هذه الأعمال لتلفت الانتباه إليها، خصوصًا أن هناك الكثير من المشاهد تصطدم –لسطحيتها– بحقائق التاريخ والواقع المعاش.
أضف تعليقك