بقلم: د. أشرف دوابة
ما زالت أزمة كورونا تلقي بظلالها على العالم، وما زالت الضبابية وعدم اليقين هي السائد للنهاية المؤلمة لتلك الأزمة، التي جاءت على خلاف المتوقع من خلال نشأتها في القطاع الصحي لتنتقل إلى كافة قطاعات النشاط الاقتصادي، فلم يسلم منها القطاع الخدمي من نقل وسياحة حتى بدت المطارات فارغة، والأماكن السياحية خاوية، كما شهد قطاع التجارة ركوداً بفعل توقف حركتها والتباعد الاجتماعي ليس على المستوى القطري فحسب بل على المستوى الدولي، وقس على ذلك القطاعين الصناعي والزراعي. وقد عكس هذا الوضع المؤلم مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا بتصريحها أن العالم دخل حالة ركود قد تكون أسوأ من الأزمة المالية العالمية الأخيرة في العام 2008.
وكذلك ما تلاه من تصريحات لكبيرة الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي جيتا جوبينات أنه من المحتمل جداً أن يشهد الاقتصاد العالمي هذا العام أسوأ ركود له منذ الكساد العظيم 1929، متجاوزاً ما شاهدناه خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008.
والواقع أن الكساد حل بدول العالم بسبب الأزمة، وهذا الكساد بطبيعته ليس بقوة واحدة ولكنه متعدد القوى، فهو كالإعصار يتراوح ما بين عادي ومفجع، والكساد العادي يحتل المرتبة الأولى ويسمى كذلك كساد المخزون حيث يمثل جزءاً من دورة الأعمال التجارية ويحدث حينما يتجاوز العرض الطلب، فتخفض الشركات الإنتاج بصورة حادة إلى أن يباع ما لديها من مخزون، وهذا يمكن علاجه اقتصادياً من خلال تصحيح السوق نفسها بنفسها أو التوجيه غير المباشر للحكومة.
أما الكساد المفجع وهو من الفئة الخامسة فيحدث عندما ينهار الطلب نفسه أي عندما يتوقف المستهلكون عن الإنفاق وتتوقف الشركات عن الإنتاج، والعلاج الوقتي لذلك هو تدخل مباشر للدولة بضخ سيولة وتخفيض الضرائب وزيادة الإنفاق الحكومي، لإحياء النمو على المدى القريب، ويكون هذا الأمر له تبعات أكثر إذا وصل مؤشر الضيق الذي يمثل حاصل جمع البطالة ومعدل التضخم إلى رقم عشري أو ذي خانتين.
وفي المراحل الأولى للكساد وتوقعاً باشتداد الأزمة لجأت الدول الغربية ذات الاقتصاديات الكبيرة بخفض سعر الفائدة نحو الصفر، ووقف البيع على المكشوف، وضخ سيولة والتشجيع على الإنفاق، وصرف إعانات اجتماعية، ودعم الشركات حتى لا تقع في براثن الإفلاس، وعمل مراكز الأبحاث ليل نهار، وكان لافتاً للنظر الرجوع كذلك إلى الله والتسليم بقدرته من خلال هذا الفيروس غير الملموس ولكن فعله ملموس في ربوع الدنيا، حيث سجن الناس في بيوتهم، وأوقف دولاب الإنتاج في دول العالم.
وتضع الأزمة العالم وشكله في أزمة، فالكل ينتظر الخروج منها، وشكل العالم بعد اجتيازها.
وقد تعددت سيناريوهات الخروج منها ففي دراسة نشرتها جامعة هارفارد وضعت ثلاث سيناريوهات لتعافي الاقتصاد العالمي من أزمة فيروس كورونا بناء على اعتماد الجامعة على معلومات تاريخية مستخلصة من أزمات مر بها العالم في أعقاب أوبئة مماثلة لـ "كورونا" ومراحل تعافي الاقتصاد العالمي منها.
وقد تضمن السيناريو الأول احتمالية وقوعه "قائمة"، ويعتمد على تعافي الاقتصاد العالمي في غضون 6 أشهر وفق تعافي الأسواق العالمية الكبرى، انطلاقاً من حدوث صدمة في بداية الأزمة ثم انتشارها وأخيراً التعافي في سيناريو يشبه حرف "V" صعوداً وهبوطاً.
بينما تضمن السيناريو الثاني احتمالية وقوعه "معقولة" ويقوم على انحدار الاقتصاد ثم تعافيه في سيناريو يشبه حرف "U" صعوداً وهبوطاً وهو الوجه الآخر للسيناريو الأول ولكن فترة التعافي أطول من الفترة في السيناريو الأول وتصل لنحو 9 أشهر، وتضمن السيناريو الثالث إمكانية حدوثه "غير متوقعة"، ويبدأ بانحدار في الاقتصاد العالمي بسبب صدمة كورونا، ثم يعقبه تعافٍ بصورة بطيئة جداً، ويحتاج هذا السيناريو لحدوثه نحو 18 شهراً.
ورغم استبعاد الدراسة حدوث البديل الثالث، ولكن قد يكون هذا هو البديل الأقرب للتحقق لا سيما في ظل عدم الوصول إلى دواء للعلاج حتى وقتنا هذا.
ولن يكون العالم بعد الخروج من الأزمة كما قبله، ولا يعني هذا وجود تغيير جذري في الشكل الاقتصادي العالمي أو تغيير مراكز القوي العالمية دفعة واحدة، فالتاريخ القريب والبعيد يكشف أن هذا التغيير سيكون تدريجياً.
إن الخروج من الأزمة لن ينهي العولمة ولكنه سيضعف من وجود القطب الواحد ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يتحكم في العالم، وغلب عليه التوسع الخارجي، والدخول في حروب وإشعال نار حروب أخرى كان أولى ألا يورط نفسه فيها، وانعكاس ذلك سلباً على اقتصاده ومعيشة الأمريكيين الذين يعرف جلهم الداخل ويجهلون الخارج، وسوف تتعلم أمريكا من هذا الدرس أن لا تسلم رقبتها للصين باعتبارها موطن إنتاجها وهو ما سوف يدفعها إلي البحث عن مواطن جديدة تتسم برخص العمالة أيضاً في المكسيك والبرازيل والهند وإندونيسيا وغيرها، بدل من التركيز في موطن وحيد هو الصين.
كما أن هذه الأزمة سيخرج من رحمها دول لو تم التنسيق بينها لأصبح لها قدم في النظام العالمي الجديد، فليست الصين بنظامها الشمولي وحدها مؤهلة، ولا روسيا المنهكة بالتدخل في الدول الأخرى وتركيزها على التسليح مهيأة، فهناك أيضا دول أمريكا اللاتينية، والهند، والفرصة متاحة كذلك للتكتل التركي الماليزي الإندونيسي الباكستاني لو تم التنسيق بينهم بصورة جيدة وانضمت إليهم دول إسلامية أخرى، فتفعيل تكتلات خارج الوصاية الأمريكية على العالم هو أمر متوقع، لاسيما وأن دول الاتحاد الأوربي غلبت عليها النزعة المحلية، في تلك الأزمة، وتخلى بعضها عن بعض، وظهر جشع الولايات المتحدة في التعامل معها، وهذا لا يعني تفكك هذا الاتحاد في القريب العاجل بقدر الانكفاء على النفس.. وكل هذا يتيح الفرصة لتفعيل نظام المدفوعات الثنائية والمتعددة لإزاحة الدولار تدريجياً وعدم لعبه في الملعب الاقتصادي الدولي وحده كعملة تسويات دولية.
كما أن العالم سيخرج من هذه الأزمة ناقما على المدرسة النيوليبرالية وتوحشها وتقديمها لحركة الاقتصاد على صحة الإنسان، فالصحة سوف تكون قبل الربح، كما أن غل يد الدولة في التدخل في الاقتصاد سيكون مثار للسخرية، لاسيما والعالم كله يظهر كيف تدخلت الدول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وأن المصلحة الخاصة عجزت عن تحقيق المصلحة العامة تلقائياً باسم اليد الخفية التي هي في حقيقتها يد مشلولة عاجزة عن مواجهة الأزمات.
إن التدخل الحكومي سيفرض نفسه حتماً، ولكنه تدخل بما يحمي مصالح المجتمع، لا تدخل يطرد القطاع العام ويزاحمه، وسيبدو هذا واضحاً في القطاع الصحي الذي سيتقدم القطاعات الأخرى من حيث الاهتمام والاستثمار، فضلا عن قطاع التعليم والبحث العلمي، إضافة إلى بذل جهد أكبر لتوفير العدالة والحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، لاسيما وأن هذا المرض لن يخرج من قواميس الطب وبات على الدول أن تخطط للتعامل معه بصفة مستمرة بعد الخروج من الأزمة.
كما أن دور الحكومة سيصبح أكثر أهمية كذلك في ظل تفاقم الدين العام ومشاكل الموازنة الناشئة عن الديون المرتبطة بتبعات الأزمة والبطالة، وهو ما يضع على الحكومات مسؤوليات جمة، لا سيما في ظل التضخم المتنامي وليد الأزمة، نتيجة لارتفاع أسعار السلع لاسيما السلع الغذائية، وهو ما سوف يؤسس في الدول كذلك لأهمية توفير الأمن الغذائي من خلال الاهتمام بالقطاع الزراعي والثروة الحيوانية والسمكية، وفي مقدمة الزراعات زراعة القمح بدلاً من التركيز في سلع قد تكون ذات ربحية ولكنها تفتقد للبعد الاستراتيجي لتحقيق الأمن الغذائي، لاسيما وأن التقارير الدولية تفيد أن نصف سكان العالم سيكونون تحت خط الفقر بعد الانتهاء من الأزمة.
وإذا كان ما ذكرناه يمتد للنظام العالمي ودوله، فإن الدول العربية ليست بعيدة عن هذه النتائج بعد الأزمة، فالدول غير النفطية خسائرها أكبر بالطبع من الدول النفطية، وإن كانت الأخيرة أيضا معرضة بصورة مباشرة لانخفاض دخلها القومي والانغماس في الانكماش والتقشف بفعل انخفاض سعر النفط، فضلاً عن تبعات الأزمة من تفاقم فاتورة الديون وارتفاع مستويات التضخم والبطالة.
وقد كشفت هذه الأزمة عن عورة النظام الرسمي العربي من خلال التركيز على اقتناء السلاح بدلاً من التوجه نحو تنمية قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي فضلاً عن قطاع الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية لتوفير غذائها ودوائها، وذلك نتيجة طبيعية لسيادة روح الانقسام والدخول في حروب ومؤامرات من صنع بعضها.
إن الدول العربية إذا لم تغير من نفسها وتستفيد من تلك الأزمة سيغيرها غيرها، ولن تكون لها قدم في عالم يتشكل بنيانه، إلا بتغيير نهجها وتحقيق الوحدة بينها، والتركيز على إنتاج احتياجاتها، واحترام حرية الرأي وحقوق الإنسان فيها، وخضوع حكامها لإرادة شعوبها.
أضف تعليقك