بقلم..عامر شامخ
هذا مثلٌ يُضرب فى المتحولين، الذين يرفعون شعار (معاهم معاهم، عليهم عليهم)، وقصته: أن رجلًا كان لديه حظيرة من الخيل والبقر، وكان من بينها بقرة أسماها “شقراء”؛ فكلما فتح باب الإسطبل انطلقت الخيل، فكانت “شقراء” تقف وقفة الفرس، ثم ترفع ذيلها وتنطلق مسرعة خلف الخيل، فصارت قصتها مثلًا.
والمتحول شخص إمعة، تابع لا رأى له ولا أثر، وقد رأيناهم على مدى السنوات السبع الماضية، وقد اتبعوا الباطل، واستحلوا الدماء والأعراض، وأفتوا بما يخالف الشرع، ومنهم إعلاميون وسياسيون ونخب وأدباء، وأيضًا دعاة، نعم دعاة! خذلوا الحق، وساندوا الظلم، وخاضوا مع الخائضين.
ولا زال الموت يحصد كل يوم رجال حق وصدق، ولا زال يحصد أيضًا طائفة جُبلوا على خفض الجباه وعيش الذل، ولا زال الأحياء يذكرون مواقف هؤلاء وهؤلاء؛ ففى حين تجد مواقف عزة وكرامة تجد فى المقابل مواقف خسة ونذالة، مات الدكتور محمد مرسى فصلى عليه العالم أجمع، وذكره القريب والبعيد، ومات فلان وفلان ممن أيدوا الظالم فرُجموا كما يُرجم إبليس، وشُيعوا غير مأسوف عليهم، وربما كان أحدهم قارئًا للقرآن أو عالمًا حافظًا فلم يشفع له ذلك، حتى من أخذوا بخيار العفو قالوا: (له ما له وعليه ما عليه).
ولا زال التاريخ شاهدًا على مواقف الرجولة، مثنيًا على أصحابها، ولا ينبئنا فى المقابل بشىء عن هؤلاء الذيول المتهافتين، كأنه ألقاهم من حافظته.. وهل نسى التاريخ موقف “المطعم بن عدى” مع النبى –صلى الله عليه وسلم- يوم عودته من الطائف؟ قيل: لما عاد النبى –صلى الله عليه وسلم- من الطائف وقد لقى ما لقى، أراد أن يدخل فى جوار أحد من كبار مكة، فأرسل إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب، فأرسل إلى المطعم بن عدى، سيد قبيلة بنى نوفل، فدعا الرجل بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإنى قد أجرت محمدًا، فدخل النبى –صلى الله عليه وسلم- ومعه زيد بن حارثة مكة حتى انتهى إلى المسجد الحرام فأدى النسك، فقام المطعم على راحلته فقال: يا معشر قريش! إنى قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم.
والرجل نفسه “المطعم بن عدى” هو من شق الصحيفة الجائرة مع أربعة آخرين فأُخرج المسلمون من شِعْبِ أبى طالب، وقد قدَّر النبى –صلى الله عليه وسلم- صنيعه فقال يوم بدر فى أسارى المشركين: “لو كان المطعم بن عدى حيًّا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له”.
هل يستوى هذا الرجل مع من يحرض على إخوانه المسلمين بقوله: (اضرب فى المليان، دول ناس ريحتهم وحشة)؟ أو مع من أفتى بشرعية المنقلب وأنكر شرعية الشرعى؟ أو مع من ادعى أن القاتل المستبد هدية السماء؟ أو مع الذين يكذبون بالليل والنهار لتأييد الباطل؟ أو مع الذين يعذبون الناس ويلفقون لهم القضايا؟ أو مع الذين يصدرون الأحكام الجائرة المسيسة على البرءاء؟ وغيرهم وغيرهم؟
لقد أخبرنا النبى –صلى الله عليه وسلم- بهذه الفتن، وبكيفية الخروج منها، فقال: “إنه ستكون بعدى أمراء، من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى ولست منه وليس بوارد علىَّ الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه، وهو وارد علىَّ الحوض”، وحذر –صلى الله عليه وسلم- من الميوعة فقال: “لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم”.
هكذا يكون (الرجل)؛ ناطقًا بالحق، شجاعًا صادقًا، عالى الرأس، عزيز النفس، غير متردد ولا هياب، لا يخشى انقطاع أجل أو رزق، ولا يطمع فى فضل بشر مثله، أمير أو أجير، يقول النبى –صلى الله عليه وسلم- “إن على أبوب السلطان فتنًا كمبارك الإبل، لا تصيبوا من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من دينكم مثله”.
وفى العصر الحديث رأينا من يحفظ العهد، ولو بالغالى والرخيص، ومن يبيع نفسه وماله لله، بريئًا من الظلم والظالمين.. يحكى الأستاذ محمد حامد أبو النصر (المرشد الخامس) فى مذكراته أنه جرى بينه وبين أحد المحققين هذا الحوار، قبل أن يُحكم عليه بالمؤبد بيوم واحد، وقد فشل عبد الناصر (بلدياته) فى استمالته إليه..
“قال المحقق: واحد مبسوط زيك وغنى، ماله ومال الإخوان؟ ثم سألنى: إيه رأيك فى حسن الهضيبى؟ قلت: مستشار عظيم، فرد قائلًا: يصلح أن يكون مرشدًا؟ قلت: أكفأ واحد يصلح أن يكون على رأس الجماعة، قال: يا سلام! أكتب هذا الكلام؟ قلت: هذا رأيى، فلاحظت أن وجهه قد اصفر وأذنيه احمرتا وعينيه زاغتا وقال بسخرية: دانت صادق قوى، الصدق طالع من عنيك، بكرة هاتشوف”، وهلك عبد الناصر وهلك المحقق، وعاش “أبو النصر” بعد هذه الواقعة اثنتين وأربعين سنة منها عشر سنوات فى أخريات حياته كان يُستقبل فى مطارات العالم استقبال الزعماء.
أضف تعليقك