بقلم: ياسين أقطاي
إنّ الدول الأكثرَ تطوّرًا في العالم نراها تعاني -أكثر من غيرها- من جميع المشكلات التي يسبّبها وباء كورونا، كالولايات المتحدة والصين وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإيران وروسيا، وبطبيعة الحال تركيا وسائر البلدان الأوروبية.
وطالما أن المشكلة عالميّة؛ فإنّ التوصيفات والتشخيصات والخطابات بشأن هذه المشكلة تكتسب انتشارًا عالميًّا على الفور. وكلُّ شخص لديه ما يقوله فيها لأن مشاركة الجميع لتجاربهم في التعامل معها قادرة على توفير البيانات التي تفيد الجميعَ في أنحاء العالم.
ولأنه لا توجد -حتى الآن- معلوماتٌ واضحة دقيقة ونهائية عن طبيعة هذا العدوّ الذي لا يمكن للناس رؤيته؛ فلا يمكن لأحد التحدث عن نهاية المشكلة ما لم يتم التغلب على الفيروس في جميع أنحاء العالم. ولتحقيق ذلك لا بُدّ أن تكون كافة الدول على اتصال وتضامُن مع بعضها بعضًا. وأيضا هناك ضرورة للتعامل مع هذه المسألة بحساسية عالية ومسؤولية، وبالتشارُك والتعاون بين الجميع.
ورغم أنّ ماهيّة المشكلة نفسَها لا تزال غيرَ واضحة، ومع أنّه لا توجد خريطة واضحة للخروج من هذه الجائحة العالمية؛ فإنّ الجميع بدؤوا يركّزون على التنبُّؤ بحالات ما بعد كورونا وتقديم اقتراحات بشأنها.
ونلاحظ الآن أنّ كلّ أعمال وجهود علماء الاجتماع والأكاديميين والسياسيين -في جميع أنحاء العالم- تصبّ في دراسة ما بعد كورونا. وبطبيعة الحال؛ تبحث كل دولة عن سُبُل للاستفادة من هذا الوضع، والخروج منه بأقلّ خسائر ممكنة.
كيف سيكون العالمُ بعد هذه الجائحة؟ هل سيتغيّر كل شيء بشكل جذري؟ هل سنشهد تغييرات جذرية في طبيعة علاقاتنا الاجتماعية، وعلاقاتنا الدولية، وحتى في أشكال التدين؟ هل ستتمكن مثلاً بعض البلدان التي تشهد منافسة شرسة ومزمِنة من إنهاء عداواتها بفضل تحالفها ضد العدو المشترك "كوفيد-19"؟
صلاةُ الجمعة التي لم تُلْغَ في أيّ مرحلة من التاريخ هل ستُستأنَف من جديد؟ وهل سيستمر الانقطاع عن ممارسة طقوس الكنيسة طويلا؟ وكيف ستنعكس هذه الجائحة على طبيعة التجمعات الاجتماعية فيما بعد؟ هذه الأسئلة -مع التفكير في المستقبل- هي التي تشغل بالَ الجميع في هذه المرحلة.
وفي الوقت نفسه؛ فإنّ أبرز وأغرب ما أَظهرته هذه الجائحة هي حالة الدول التي كان أداؤها مخالفًا تمامًا للصورة التي كانت تمثّلها وتنشرها عن نفسها حتى الآن. فقد شاهدنا بأعيننا انهيارَ النُّظُم الصحية في البلدان المتقدمة في العالم، والتي تعدّ أسطورةً في المجال العلمي والتقني، وفي تطوير القطاع الصحي، وقد شكّل هذا الانهيار نوعًا من الفضيحة.
ويبدو أن عجز بلدان مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا -التي تجتذب السياح من جميع أنحاء العالم- عن توفير الرعاية الصحية لمواطنيها، يجلب في الواقع المزيد من التساؤلات عن مآلات "النظام العالمي الحالي" في مرحلة ما بعد كورونا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه البلدان تحاول بالفعل حشْدَ جهود مهمة في العلاقات العامة لترقيع هذه الصورة الفاضحة.
ويمكن القول إن تركيا -وهي بلد يستقبل السياح من جميع أنحاء العالم- واحدة من البلدان القليلة في العالم التي لم يتم سحقها في ظل هذه الجائحة. فقد نجحت تركيا في إدارة عملية مكافحة تفشي الفيروس، ونفذّت العملية بأقل قدر من الضرر حتى الآن، وبنجاح أكبر بكثير من أي بلد آخر، وذلك بفضل التدابير المبكرة التي اتخذتها.
وبالإضافة إلى ذلك؛ أجرت تركيا لمواطنيها -حتى الآن- مليونًا ومئة ألف اختبار للكشف عن "كوفيد-19"، وقدّمت العلاجَ المجاني لجميع الحالات المصابة التي بلغت نحو مئة وخمسين ألف مصاب، وفي الوقت نفسه وزّعت على مواطنيها ملايين الكمامات بشكل مجّاني تماما.
وبالنسبة للمواطنين القادمين من الخارج؛ فقد تم استقبال عشرات الآلاف منهم في مساكن الطلبة (التابعة للجامعات) لإخضاعهم للعزل الصحي مدّةَ أربعة عشر يوما، وطوال مدّة الحجر الصحيّ تم تأمين كل احتياجاتهم على نفقة الدولة. وأمّا الأشخاص الذين تضرّروا ماديّا وتوقفت معاشاتهم جرّاء قيود حظر التجوّل المطبّقة؛ فقد حصل ما يقارب أربعة ملايين شخص على المساعدات المالية (النقدية) من الدولة.
وبخصوص الشركات التي تضررت بشدة من هذه العملية؛ فقد تمّ تأجيل ديونها الضريبية، ومُنِحَ جزءٌ كبير من أصحاب العمل قروضا من صندوق ضمان الائتمان (KGF)، الذي أنشِئ لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير الكفالة لتمكينها من استخدام القروض المصرفية في تمويل استثماراتها وأعمالها.
وفي هذه الأثناء التي كانت فيها الحكومة التركية تقدِّم كل الرعاية والدعم لمواطنيها؛ لم تنسَ شعوبَ البلدان الأُخرى، فأرسلت إمدادات طبية إلى نحو سبعين دولة، مما يجعلها البلد الأكثر نجاحًا في مساعدة البلدان الأخرى في هذه الجائحة، وقد تم التبرع ببعض هذه المواد، وأرسل بعضها بثمنها.
ومن بين الدول التي تم تقديم المساعدة إليها: الولايات المتحدة، وإيطاليا، وبريطانيا، وإسبانيا، ودول البلقان، بالإضافة إلى الصومال، وكزاخستان، وليبيا، وسوريا، والعديد من الدول الأفريقية. وهذا يُظهر مرة أخرى أن تركيا -مقارنة بدخلها القومي وعدد سكانّها- هي الدولة الأكثر تبرُّعًا بالمساعدات الإنسانية في العالم ومنذ سنوات عديدة.
ولا شكّ أن تركيا في هذه الحالة وبهذه الطريقة التي تصرّفت فيها، حيثُ ظهرت قوةُ نظامها الصحي وقوّتها في دعم مواطنيها، وقوّتها في تقديم الإمدادات لكثير من دول العالم؛ كلّ هذا أعطاها فضيلة الصدارة، وأعطاها مزيّة في عالَم ما بعد كورونا.
إنّ المساعدة الطارئة التي أرسلتْها تركيا إلى إنجلترا -التي واجهت أوقاتا صعبة في مكافحة فيروس كورونا- خفّفت عن البلاد كثيرا، وجعلتها تتنفَّسُ الصُّعداء. وبقيت وسائل الإعلام ونشرات الأخبار في إنجلترا لأيّام وهي تتحدّث عن المساعدات التركية، معربةً عن التقدير والامتنان لتركيا.
ولكن لوحِظ أيضا أن هناك من يزعجه موضوع الاضطرار إلى الحصول على مساعدة من تركيا. فقد جاء -في تقرير نشرته صحيفة بريطانية الأسبوع الماضي ثم انتشر بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي- أنّ "الملابس الواقية المرسلة من تركيا إلى المملكة المتحدة لا تتفق مع المعايير".
ورغم أن وزارة الصحة البريطانية أعلنت لاحقًا أن هذه الأخبار كانت تشويهًا وكاذبة تماما؛ فإنّ هذا الخبر تمّ تلقّيه بشهية وسرعة في هذه المدة القصيرة، وهذا لم يكن مفاجئًا لنا.
وواضحٌ أنّ هناك مَن يغيظه أن تتحوّل تركيا إلى أسطورة في النجاح وفي وقت قصير، وأنّه أَحبَّ أن يختلق الأكاذيب. وكما كان متوقَّعًا؛ فقد تلقَّفت المعارضة التركية هذه الأخبار بشغف، وطارت بها فرحا. وبالمثل؛ فقد تم استهلاك هذه الأخبار بشهية كبيرة في حسابات الذباب الإلكتروني في الإمارات ومصر والسعودية.
وبالإضافة إلى أنّ وزارة الصحّة البريطانية قد فنّدت هذه الأكاذيب؛ فإنّ وزارة الصحة التركية كذّبت مزاعم الصحيفة البريطانية أيضا. وفي بيان مكتوب؛ قالت الوزارة: "كما هو معروف، تبرعت الجمهورية التركية بـ100.000 بدلة وقائية للممرّضين (أفرول)، و100.000 قناع جراحي، و50.000 قناع N95 إلى المملكة المتحدة في 7 أبريل/نيسان. وتم تقديم شهادات CE وISO تخص جميع المنتجات -التي تبرعت بها جمهورية تركيا- مسبقًا إلى المملكة المتحدة. وتم إرسال جميع هذه المنتجات إلى المملكة المتحدة بعد موافقة هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) المسؤولة عن إدارة وتنسيق نظام الصحة العامة في المملكة المتحدة".
وفي الوقت نفسه؛ نفى وزير الصحة البريطاني شخصيًّا هذه الأنباءَ، وأعرَبَ عن امتنانه لتركيا للمساعدات التي أرسلتها إلى المملكة المتحدة، مؤكدا أن هذه الإمدادات الطبية قد اجتازت جميع الاختبارات المعياريّة بنجاح.
وهكذا انهارت أحلامُ شخصٍ ما كان يحلم بإمكانية طمس قصة نجاحٍ أخرى لتركيا، وذهبت جهودُه كلُّها هدراً. ومع أن نجاح تركيا في هذا الصدد هو في الواقع إنجاز سيفيدُ الإنسانيةَ جمعاء، فإنه -كما قلنا أعلاه- لن يتم حل هذه المشكلة العالمية والنجاة منها لأي شخص ما لم يتم حلُّها في جميع أنحاء العالم.
أضف تعليقك