بين يدي الذكرى الـ72 على النكبة
ظل اليهود يحلمون بأن يكون لهم وطن قومي خاص بهم، وعلى مدى القرون الطويلة التي عاشوها في مختلف بلدان العالم، التي فتحت لهم أبوابها، ووفرت لهم سبل الحياة باعتبارهم لبنة من لبناتها، وأبناءً شرعيين لتلك الأرض التي وُلِدوا وشَبُّوا عليها، إلا أن معظم هؤلاء اليهود على مدار تلك القرون الطويلة، لم يكن انتماؤهم أبدًا لتلك الأرض التي نشئوا وشبوا عليها، وظلت فكرة الوطن القومي تلح عليهم، وتحول دون اندماجهم في تلك المجتمعات التي عاشوا فيها وولائهم لها، وبرغم كل ما حققوه من ثراء ونفوذ في معظم دول العالم فإنهم سخَّروا ذلك كله لتحقيق هدفهم، والتأثير على أصحاب النفوذ في الدول الكبرى لتنفيذ مخططاتهم وتحقيق أطماعهم.
وسعت الدعاية الصهيونية إلى ابتزاز مشاعر الشعوب، وكسب تعاطفهم مع الفكرة الصهيونية الاستعمارية من خلال المبالغة في إظهار ما يتعرض له اليهود من معاناة، والترويج لأكذوبة كبرى لفَّقتها آلة الدعاية الصهيونية حول "أرض الميعاد"، والتلويح الدائم بالمكاسب التي يمكن أن يجنيها الغرب من إنشاء وطن قومي لليهود يجمع شتاتهم، ويكون حارسًا على مصالح دول "أوربا" الاستعمارية في الشرق.
وبرغم الجهود الهائلة والدعاية المكثفة التي سيطر اليهود على أدواتها ووسائلها، فإن البدايات الأولى لفكرة إنشاء وطن خاص باليهود لم تخرج إلى حيز التنفيذ إلا قبيل الحملة الفرنسية على "مصر"، وظهر ذلك بشكل مباشر في خطاب "نابليون"، الذي وجهه إلى يهود الشرق؛ ليكونوا عونًا له في هذه البلاد.
وقد وجدت هذه الدعوة صدى لها لدى كثير من اليهود، فقد كتب المفكر اليهودي "موسى هس" يقول: "إن (فرنسا) لا تتمنى أكثر من أن ترى الطريق إلى (الهند) و(الصين)، وقد سكنها شعب على أهبة الاستعداد لأن يتبعها حتى الموت.. فهل هناك أصلح من الشعب اليهودي لهذا الغرض؟!".
ومع نهايات القرن التاسع عشر انتقلت فكرة الصهيونية التي تزعَّمها "تيودور هرتزل"- مؤسس الحركة الصهيونية- من مرحلة التنظير إلى حيِّز التنفيذ، وذلك بعد "المؤتمر الصهيوني الأول" الذي عُقِدَ في "بازل" عام (1314هـ = 1897م)، وتجلى ذلك بوضوح في سعي الصهيونيين الدائب للحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي يهودي.
"هرتزل" يحاول رشوة سلطان المسلمين:
كان التفكير يتجه في البداية إلى منح اليهود وطنًا في شمال إفريقيا، ثم تلا ذلك تحديد منطقة العريش، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، فاتجه تفكير اليهود إلى (فلسطين)، وسعوا للحصول على وعد من (تركيا)- صاحبة السيادة على (فلسطين)- لإنشاء وطن لليهود فيها، وسعى "هرتزل" إلى مقابلة السلطان "عبد الحميد"، وحاول رشوته بمبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني مقابل الحصول على قطعة أرض في "فلسطين"، يقيمون عليها حكمًا ذاتيًّا، وكتب إليه رسالة جاء فيها:
"ترغب جماعتنا في عرض قرض متدرج من عشرين مليون جنيه إسترليني يقوم على الضريبة التي يدفعها اليهود المستعمرون في فلسطين إلى جلالته؛ إذ تبلغ هذه الضريبة التي تضمها جماعتنا مائة ألف جنيه إسترليني في السنة الأولى، وتزداد إلى مليون جنيه إسترليني سنويًّا، ويتعلق هذا النمو التدريجي في الضريبة بهجرة اليهود التدريجية إلى فلسطين، أما سير العمل فيتم وضعه في اجتماعات شخصية تعقد في القسطنطينية".
وبرغم البراعة التي صِيغ بها العرض وغُلِّفت بها الرشوة، ورغم حاجة الدولة الشديدة إلى ذلك الدعم المالي وتلك المنحة الكبيرة فإن السلطان رفض، وقال:
"لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدة من البلاد؛ لأنها ليست لي، بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وفضَّلوا أن يموتوا في ساحة القتال، إن الإمبراطورية ليست ملكًا لي، بل هي ملك للشعب التركي، ولا أستطيع أن أعطي أحدًا أي جزء منها، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية يومًا ما فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل، لكن التقسيم لن يتم إلا على جثثنا".
الطريق إلى وعد بلفور:
ولكن ذلك لم يثنِ "هرتزل" عن المُضيِّ في العمل على تحقيق مشروعه، وبدأ اليهود ينشرون فكرتهم على نطاق واسع في أوربا، ووجدت الفكرة صدىً وتجاوبًا لها في الغرب لدى عدد من الساسة والزعماء، وكان "آرثر بلفور" - وزير الخارجية البريطاني - من أكثر المتحمّسين لها، فقد كان معروفًا بتأثره بالفكر الصهيوني، وتعاطفه الشديد مع الصهيونيين.
ونشط الصهيونيون في التقرب من البريطانيين، وانبروا يؤكدون لهم قدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا والحفاظ على مصالحها، وهكذا بدأ البريطانيون يضعون الخطوط الرئيسية لفكرة الوطن اليهودي، وتركزت في البداية على مفهوم إيجاد ملجأ للمضطهدين من اليهود المهاجرين، ولكن الجانب الصهيوني عارض هذا الاتجاه، واستقر الطرفان - في النهاية - على مشروع الوطن القومي.
معارضون من الداخل:
وقد قوبلت الفكرة بمعارضة شديدة من بين اليهود أنفسهم، خاصةً اليهود الليبراليين الذين استطاعوا أن يندمجوا في المجتمعات التي عاشوا فيها، ورأوا في هذه الفكرة دليلاً قد يتخذه أعداء السامية على غربة اليهودي، وعدم قدرته على الاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، وعدم انتمائه إلى موطن إقامته.
ولكن بعد نقاش طويل- داخل "مجلس ممثلي اليهود البريطانيين" - رجحت كفة مؤيدي الفكرة، وكان "حاييم وايزمان" و"ناحوم سوكولوف"، من أكثر الصهيونيين حماسًا لهذه الفكرة وتأييدًا لها، وأظهر "وايزمان" براعة سياسية ونشاطًا دءوبًا في إقناع ساسة الحلفاء بوجهة نظر الصهيونيين؛ لدفع "بريطانيا" إلى وضع فكرة الوعد، الذي صاغه "وايزمان" بنفسه في حيّز التنفيذ.
"وعد بلفور" الدوي والصدى:
وبتكليف من الحلفاء أقدمت "بريطانيا" على تلك الخطوة الخطيرة، فأصدرت "وعد بلفور"، ونشرته الصحف البريطانية صباح 23 من المحرم (1336هـ = 8 من نوفمبر 1917م)، وكان نصه:
وزارة الخارجية
2 من نوفمبر 1917م
عزيزي اللورد "روتشلد"
يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته:
إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في "فلسطين"، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يُؤتَى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح.
المخلص
آرثر بلفور
وفور إعلان هذا الوعد سارعت دول "أوربا"- وعلى رأسها "فرنسا" و"إيطاليا" و"أمريكا"- بتأييده، بينما كان له وقع الصاعقة في مناطق العالم العربي، واختلفت ردود أفعال العرب عليه بين الدهشة والاستنكار والغضب.
العرب يدفعون الثمن دائمًا:
كانت "فرنسا" صاحبة أول بيان صدر تأييدًا لتلك المبادرة المشينة، فقد أصدر وزير الخارجية الفرنسي "ستيفان" بيانًا مشتركًا مع ممثل الجمعيات الصهيونية "سكولوف"، عبّرا فيه عن ارتياحهما عن التضامن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في قضية إسكان اليهود في "فلسطين".
وإزاء حال السخط والغضب التي قابل العرب بها "وعد بلفور" أرسلت "بريطانيا" رسالة إلى "الشريف حسين" إمعانًا في الخداع والتضليل، حملها إليه الكولونيل "باست" تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان في "فلسطين" إلا بقدر ما يتفق مع أمن ومصلحة السكان العرب، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ولكنها- في الوقت نفسه- أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في "فلسطين" أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى "فلسطين" في ذلك الوقت برئاسة "حاييم وايزمان" خليفة "هرتزل".
ولم تكد تمضي بضعة أشهر على هذه الأحداث حتى وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ودخلت الجيوش البريطانية بقيادة اللورد "اللنبي" إلى القدس، وهناك ترجّل القائد الإنجليزي وقال كلمته الشهيرة: "اليوم انتهت الحروب الصليبية".
وبعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام دخل الجنرال الفرنسي "جورو" دمشق في عام (1338هـ = 1920م)، ووضع قدمه على قبر "صلاح الدين الأيوبي"، وهو يقول في تحدٍّ وتشفٍّ لا يخلو من حقد دفين: "ها نحن قد عدنا ثانية يا صلاح الدين".
وفي رجب (1338هـ = إبريل 1920م) يوافق "المجلس الأعلى لقوات الحلفاء" على أن يعهد إلى "بريطانيا" الانتداب على "فلسطين"، وأن يوضع "وعد بلفور" موضع التنفيذ.
ثم ما يلبث مجلس "عصبة الأمم المتحدة" أن يوافق على مشروع الانتداب في 11 من ذي الحجة (1341هـ = 24 من يوليو 1923م)، ثم يدخل مرحلة التطبيق الرسمي في (17 من صفر1342هـ = 29 من سبتمبر 1923م).
وتتلاقى خطوط المؤامرة وتتضح أهدافها بعد أن يتخذ اليهود من "وعد بلفور" ذريعة لقيام دولتهم، فقد أشار إعلان قيام "إسرائيل" إلى اعتراف "وعد بلفور" بحق الشعب اليهودي في تحقيق بعثه القومي على بلاده الخاصة به، كما استندوا على أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد أقرت في (16 من المحرم 1367هـ = 29 من نوفمبر 1947م) مشروعًا يدعو إلى إقامة دولة يهودية على أرض "فلسطين".
وبالرغم من كل المكاسب التي حققها اليهود من "وعد بلفور"، فإن كثيرًا من السياسيين والمؤرخين يدفعون ببطلانه، وبالتالي بطلان كل ما ترتب عليه من مغالطات وأكاذيب، فلم تكن فلسطين- عند صدور الوعد- جزءًا من الممتلكات البريطانية، حتى تتصرف فيها كما تشاء؛ وإنما كانت جزءًا من الدولة العثمانية، وهي وحدها صاحبة الحق في ذلك، كما أن "وعد بلفور" صدر من جانب واحد - وهو بريطانيا - ولم تشترك فيه الحكومة العثمانية، بالإضافة إلى أن هذا الوعد يتعارض مع البيان الرسمي الذي أعلنته "بريطانيا" في عام (1336هـ = 1918م)، أي بعد صدور "وعد بلفور"، والذي نص على "أن حكم هذه البلاد يجب أن يتم حسب مشيئة ورغبة سكانها، ولن تتحول بريطانيا عن هذه السياسة"، كما يتعارض هذا الوعد مع مبدأ حق تقرير المصير الذي أعلنه الحلفاء، وأكدته "بريطانيا" أكثر من مرة.
أضف تعليقك