يصرّ الجنرال عبد الفتاح السيسي على الانحدار بالوعي بمنصب رئيس الدولة، ومفهوم الوطن، إلى ما دون مستوى عسكري الأمن المركزي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف عن معنى الوطن شيئًا إلا ما لقّنه له قائده الضابط الكبير، أن للوطن أعداء يجب مواجهتهم بشراسة، وهم أولئك الأشرار الذين ينتقدون ويعارضون ويخرجون في تظاهراتٍ ترفع شعارات وتعلن مطالب حقيقية.
هؤلاء هم الخطر الوحيد على الوطن، كما زرع السيناريست وحيد حامد في رأس جندي الأمن المركزي، أحمد سبع الليل، في فيلم "البريء" أحد الروائع السينمائية للراحلين عاطف الطيب وأحمد زكي. على أن السيسي لا يحمل فقط مفهوم سبع الليل للوطن، وإنما يتحدث إلى مجموع المواطنين باعتبارهم كثيرًا من "السبع الليل"، ومن ثم لا يجد سبيلًا سوى التهرب من فشله وقمعه وظلمه بمفردات من نوعية "أعداء الوطن الذين يتربصون به"، كما بدا أمس في تصريحاته المتشنجة المثيرة للشفقة، وهو يعلق على تطورات انتشار فيروس كورونا، والمعالجة البليدة للموضوع التي تحتقر العلم والطب، وتعتمد الحلول الأمنية والعسكرية، على النحو الذي جعل المواطن المصري يدرك أن المعركة مع كورونا هي معركته الفردية وحده، من العبث الاعتماد على الدولة فيها، حيث لا فهم ولا إدراك ولا إحساس بمسؤولية أو رغبة حقيقية وجادّة في حماية الشعب من الوباء.
يقول السيسي "وفي ظل الجهود التي تبذلها الدولة المصرية حكومةً وشعباً في مواجهة هذا الوباء والاستمرار في تنفيذ خطط التنمية والحفاظ على الاستقرار الإقتصادى في أصعب الظروف، يحاول أعداء الوطن من المتربّصين التشكيك فيما تقوم الدولة به من جهد وإنجاز". لن نتساءل بشأن ما يقوم به السيسي من جهد وإنجاز، فالإنجازات عديدة وواضحة: تفقد طرق وكباري، بينما المستشفيات تتحول إلى خرائب بلا تجهيزات أو علاجات، يموت فيها الأطباء يوميًا وهم يخوضون معركة بلا أسلحة، ثم يتهمون بالخيانة والتآمر.
ولا يقل أهميةً في الإنجاز توزيع صكوك العفو عن القتلة والمجرمين، الثابت إجرامهم بأحكام قضاء النقض، من أمثال محسن السكري، الضابط قاتل المطربة اللبنانية، وهشام طلعت مصطفى، رجل الأعمال الذي استأجر الأول للقتل، والذي قرّر أن يكافئ السيسي وجيشه على هدية العيد بالعفو عن قاتل المطربة، بتقديم حزمةٍ من الإعفاءات والمزايا والهدايا، يتضمنها بيان صادر عن مجموعته الاستثمارية تحت عنوان "تكريمًا لذكرى شهداء الوطن"، ويتضمن اعفاءات مالية واشتراكات مجانية في الأندية وإسقاط أقساط متأخرة لأسر ضباط الجيش والشرطة.
لم يحدث في تاريخ مصر أن كان مسموحًا بالعطايا والهدايا والرشى العلنية المقدّمة من رجال أعمال إلى الجيش والشرطة على هذا النحو المبتذل والمهين، فإذا لم يكن هذا هو التربّص بالوطن بعينه، والاحتقار لمفهوم الوطنية الحقيقية، فماذا تكون الإساءة للوطن إذن؟ والسؤال الأهم، عن أي وطن يتحدث عبد الفتاح السيسي؟ الوطن الذي باع منه جزيرتين استراتيجيتين للسعودية، تحقيقًا لمصلحة إسرائيلية؟ أم الوطن الذي يبيع غازه للصهاينة، ثم يشتريه منهم بأضعاف ثمنه؟ أم الوطن الذي حوله إلى ساحة للجنون وميدان للاحتراب الأهلي، فجعل أثيوبيا لأول مرة في التاريخ تسخر من الكلام عن حقوق مصر التاريخية في نهر النيل، بحسب المنشور في مواقع مصرية أمس؟
إن أحدًا لم يبتذل الوطن ويهينه ويصغره بعين العالم كما فعل السيسي، منذ انتزع الحكم قتلًا وإرهابًا، وهو الأمر الذي قرّر المتربصون الحقيقيون بالوطن استغلاله واستثماره، من إسرائيل، التي باتت ترى أن وجود السيسي في حكم مصر من أولويات أمنها القومي، إلى الحبشة التي أدركت، منذ البداية، أنها بصدد فرصة تاريخية لن تتكرّر لفرض سيادتها على نهر النيل والتحكم في حصص المياه.
مبكرًا جدًا، قلنا إن السيسي دخل مفاوضات سد النهضة ملطخًا بدماء المصريين، فعرف الطرف الآخر أنه أمام شخصٍ على استعداد لتقديم كل شيء حتى يستتب له الأمر، ولم يكن الجانب الإثيوبي بحاجةٍ إلى ممارسة ضغوط أو مناورات، فالذي يفاوضهم جاء بلا أوراق، وبلا أدنى قدرةٍ على الممانعة. فقط يمتلئ برغبةٍ عارمة في أن يكون حاكمًا لشعبٍ يحارب بعضه بعضًا، وينقسم كما لم يحلم ألد أعدائه، فوقع الجنرال على كل المطلوب منه، وأقام احتفاليةً مبتذلةً بالإذعان والتفريط.
ذهب مفاوضًا باسم البلاد التي تحوّلت من الدولة إلى شبه دولةٍ انفصلت عن مدارها الحضاري، وتغوص في مستنقعات الدماء، لا هي تطفو، ولا هي تستقرّ في القاع، إذ تتخبّط عشوائياً في واقع هش، لم تنجح الصور اللامعة والمهرجانات الفاقعة في تجميله.
الوطن عند السيسي هو ما كتبوه له في مسلسل "الاختيار"، وأفهموه أن هذا هو الواقع، فقرّر أن يعيش فيه لا يغادره، ولا يرى أبعد مما رسمه المؤلف والمخرج، حتى صار انتقاد المسلسل عنده بمثابة تربّص بالوطن.
أضف تعليقك