بقلم : شريف أيمن
مرت منذ أيام الذكرى الثامنة والستون لانقلاب الضباط على الحكم الملكي عام 1952، وما أَمَرَّها من ذكرى، وما أقبح تبعاتها.
لقيت حركة الضباط سهولة غير معتادة في الانقلابات العسكرية، وتجاوبا هادئا من السلطة المُنقلَب عليها، وربما يكون مردُّ الاستجابة الهادئة إلى إقناع علي باشا ماهر، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، الملكَ فاروق عدم جدوى الاشتباك مع القوات المحاصرة لقصره، وإيقاع البلاد في حرب أهلية، وهو ما استجاب له الملك، بحسب رواية سليمان حافظ، ورغم الاحتفاء الشعبي بالانقلاب الذي خلصهم من حاكم غلبته شهواته وملذاته على رعاية مصالح الوطن، فإن طُغمة أشد انجرارا وراء شهواتها قد تولت مقاليد الحكم، وعصفت بكل قيم الشرف سواء على مستوى الحكم أو على مستوى ذواتهم المُنحلّة.
كان الحدث الكاشف لسوء طوايا هؤلاء الضباط الصغار هو صراع آذار (مارس) 1956 مع رئيس الجمهورية محمد نجيب، وهو الصراع الذي قضى على آمال الديمقراطية، بعدما كانت في تجاذب مع الفساد والاستبداد في العهد الملكي، وعقب سيطرة البكباشي جمال عبد الناصر وعصابته على الحكم توالت النكبات تلو النكبات على مدار سبعة عقود إلا ثلاثين شهرا تقريبا هي عمر الثورة المصرية عام 2011.
طوال سنوات حكم ناصر الرسمية 1956- 1970، تأسس الاستبداد وأصبحت له هياكل، وكانت العمالة للأجهزة الأمنية هي مقياس "الوطنية" ومخالفة توجهات النظام تجعل المرء "خائنا أو تابعا لقوى الظلام والرجعية"، كان النظام السياسي الناصري تقدميا في الاستبداد والقمع، ورجعيا تماما في كل ما يتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، وآية ذلك أنه أُجريت 6 استحقاقات دستورية خلال عهد الزعيم التقدمي الوحدوي، لم يجرِ استفتاء الناس سوى في أول واحدة من هذه الاستحقاقات لأنها تزامنت مع الاستفتاء على شخص ذلك الزعيم فقط، لاحظ أنها استحقاقات دستورية أي أعلى درجات التشريع التي لا تستقيم سوى بالاختيار الشعبي، ويمكن الرجوع إليها في مقال أزمة مارس المُشار إليه آنفا.
رحل قائد الانقلاب العسكري في 1952 وترك وراءه سرطانا خبيثا في كل مكان في المجتمع، على مستوى السياسة والأمن والجيش والاستخبارات والقضاء والفن والصحافة والمثقفين وغيرهم، رحل ناصر واستفاد السادات ومبارك ممن تربوا في التنظيم الطليعي وأصبحوا قادة النظام السياسي حتى ثورة 2011، بل إن عرّابي وشيوخ انقلاب 2013 كانوا أيضا ممن صعد نجمهم أيام حكم زعيم الفساد والاستبداد والهزائم.
عمد ناصر إلى قمع كل مخالف خاصة التنظيمات السياسية كالوفد والإخوان المسلمين، والانتقام من كل معارض حتى لو تكلم في نطاق زُمرته الفاسدة كما فعل مع سليمان حافظ، وقصة ذلك أن الرجل هرع إلى ناصر عقب اندلاع العدوان الثلاثي وإعلان "جنرال الهزائم" أن قواتنا المسلحة انسحبت إلى غرب القنال، فتحرك الرجل بمشاعره الوطنية ناصحا بالتخلي عن السلطة لنجيب عودة الضباط إلى كتائبهم العسكرية مرة أخرى لمواجهة العدوان، وتوجه بحديثه إلى عبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر لأنه لم يستطع لقاء ناصر، وعقب انتهاء الحملة العسكرية الثلاثية اعتقل عبد الناصر سليمان حافظ وألقاه في السجن، رغم أن الرجل كان من أشد المخلصين للحركة العسكرية في بدايتها وشارك بنفسه في كتابة بيان تنازل الملك فاروق عن الحكم.
لم يتوقف نهم ناصر للحكم على البطش للمخالفين له، بل امتد سخطه إلى من أحبّه الناس، ولذلك قصة أخرى نبهني لها أستاذنا الفاضل د. هشام الحمامي، وهي قصة اللواء مدكور أبو العز، فمدكور أبو العز كان قائدا عسكريا فذا في سلاح الطيران، ولأنه لم يكن من "شِلّة" الشهواني الفاسد والعسكري الفاشل عبد الحكيم عامر، فتمت تنحيته من منصب مدير الكلية الجوية رغم كفاءته المعروفة، وتولى سلاح الطيران أحد أفشل قادته وهو اللواء محمد صدقي محمود الذي كان قائد السلاح خلال العدوان الثلاثي، ورغم إخفاقه في حماية الطيران المصري وتدميره في تلك المعركة، فإنه استمر قائدا للسلاح حتى هزيمة يونيو 1967 وتدمير السلاح بنفس الطريقة مرة أخرى، قام عبد الناصر بتكليف اللواء مدكور بقيادة السلاح يوم 11 يونيو بعد الهزيمة بأيام، وبعد أربعين يوما قام بشن أول غارة جوية على القواعد العسكرية لدولة الاحتلال في سيناء المحتلة، وعمل مدكور بإخلاص على بناء القوات الجوية، وبعد نجاحه في رفع الروح المعنوية للمصريين بعد الهزيمة المذلة، علم الناس أن أبو العز يصلي في طنطا فاحتفوا به إلى درجة أنهم حملوا سيارته، ليقرر ناصر بعدها مباشرة عزله مرة أخرى في نوفمبر من عام الهزيمة، ليفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤل وطنية الزعيم الذي لا يعبؤ بأي قرار يهم مصالح شعبه حتى لو في لحظات حرجة كتلك.
رحل قائد الانقلاب العسكري في 1952 وترك وراءه سرطانا خبيثا في كل مكان في المجتمع، على مستوى السياسة والأمن والجيش والاستخبارات والقضاء والفن والصحافة والمثقفين وغيرهم، رحل ناصر واستفاد السادات ومبارك ممن تربوا في التنظيم الطليعي وأصبحوا قادة النظام السياسي حتى ثورة 2011، بل إن عرّابي وشيوخ انقلاب 2013 كانوا أيضا ممن صعد نجمهم أيام حكم زعيم الفساد والاستبداد والهزائم.
في ذكرى النكبة الأكبر التي حاقت بمصر والمنطقة فإن أكثر ما يثير التساؤل، هل كانت مصادفة أن تتزامن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس نظام دولي جديد مع الحكم العسكري في أغلب الدول التي كانت مُحتلة من دول أوروبية؟
أضف تعليقك