بقلم: ياسر الزعاترة
ها هو الأمين العام للأمم المتحدة، "يبشّرنا" من خلال تقرير جديد بأنه "مع سقوط الملايين نحو أسفل السلم الاقتصادي؛ سيعيش ربع السكان العرب بالكامل في فقر، وذلك وسط منطقة مليئة بالتوترات وعدم المساواة، مما سيكون له عواقب وخيمة على الاستقرار السياسي والاجتماعي".
لم يكن الوضع الاقتصادي في أكثر الدول العربية بخير قبل "كورونا" وتدهور أسعار النفط، فالمؤشرات الاقتصادية من ركود وبطالة وتراجع في مستوى الدخول؛ كان واضحا كل الوضوح قبل ذلك، ما يعني أن جوهر هذه السطور لم يكن واجب الطرح بعد "كورونا" فقط، وإنما قبله أيضا.
خلال العقود الأخيرة، وبسبب بعض الوفرة المالية وطفرة العقد الماضي، كانت المنظومة الاجتماعية في أكثر دولنا العربية تميل نحو قدر من الترف والمبالغة في الإنفاق والمظاهر الاجتماعية التي ترهق قطاعا عريضا من الناس، بخاصة من فئة الشباب وذوي الدخل المحدود.
ولعل تراجع نسب المقبلين على الزواج في الأعوام الأخيرة، وزيادة العنوسة تبعا ذلك، هي مؤشرات خطيرة على هذا الوضع.
لم يعد بوسع الشبان الذين يحصلون على عمل بعد الدراسة الجامعية، أو من دونها، قادرون على الزواج وبناء أسرة، في أكثر الدول العربية، والسبب لا يتعلق فقط بضآلة الدخل الذي يحصلون عليه وحسب، بل بالشروط الاجتماعية التي صارت تفرض عليهم أعباءً كبيرة لا يتحملونها؛ إن كان فيما يتعلق بشروط بيت الزوجية واحتياجاته، أم بترتيب الأولويات من حيث المصاريف، أم فيما يتعلق بمصاريف الزواج ذاتها.
هل يعقل أن يتمثل شرط زواج الشاب في توفير شقة في حدود 150 مترا مربعا على سبيل المثال (مثل هذه الشقة تعتبر كبيرة جدا في دول الرفاه الأوروبي)؛ إن كان عبر الإيجار الذي سيستهلك الجزء الأكبر من الدخل، أم عبر التملك شبه المستحيل ما لم يكن الأهل قادرون على المساعدة، أم كان عبر الأثاث الكثير والمكلف.
أضف إلى ذلك تكاليف الزواج الضخمة في ظل طقوس صارت جزءا من العادات الاجتماعية الراسخة، والتي تتمثل في أكثر الأحيان في عدة مناسبات (جاهة، وخطبة وحفلة زواج)، ولكل منها تكاليفه من حيث ثمن حجز القاعة وما تبقى من المصاريف، وكل تلك الطقوس (بجانب الأثاث والمهر) تمثل مبلغا مهولا، سيحتاج الشاب إلى سنوات طويلة كي يتمكن من تجميعه؛ هذا إذا تمكّن بالفعل.
إن ترشيد الحياة وشروطها، ونبذ العادات الاجتماعية السيئة، والمثقلة بالمظاهر والترف، يمثل مهمة بالغة الأهمية للعلماء والمفكرين وأهل الرأي، وذلك عبر تقديم النماذج الحيّة لذلك، وليس فقط من خلال الوعظ
والأسوأ بالطبع هو كلفة الحياة بعد ذلك، من حيث إيجار البيت ومصاريفه، ومصاريف الحياة والأولاد، وهذا كله بات يدفع الشباب إلى عدم التفكير في الزواج أصلا، أو البحث عن فتاة عاملة، كي يتمكن الطرفان من توفير شروط الحياة.
كل ذلك بات يهدد منظومتنا الاجتماعية من حيث ارتفاع نسب العنوسة، وانتشار أمراض اجتماعية كثيرة، الأمر الذي ينبغي أن يدفع المخلصين إلى الحث على بناء منظومة اجتماعية جديدة عنوانها الرضا بالقليل، بدل الإصرار على التقاليد الشائعة من دون فائدة.
بعد "كورونا"، وما يبشّرنا به من بطالة وتراجع في المداخيل، ينبغي أن نعيد النظر في ذلك كله، وأن يتم بناء الأسر الجديدة على أسس من التقشف، بخاصة للفئات التي لا يمكنها بدء الحياة بغير ذلك.
ألا يمكن الاكتفاء بشقة في حدود الـ80 مترا مربعا على سبيل المثال؟ ألا يمكن اختصار طقوس الزواج إلى الحد الأدنى، بحيث يُكتفى بحفلة واحدة، بدل ثلاث؟ ألا يمكن تخفيف مستوى المهور؟ نعم يمكن ذلك بكل تأكيد.
خلال الشهور الأخيرة شاهدنا "زيجات" تتم من دون حفلات في الصالات، بسبب كورونا، وتم توفير الكثير من المال على الشباب المقبلين على الزواج، وهذا ما يمكن أن يحدث بدون كورونا، ولو في الحد الأدنى.
إن ترشيد الحياة وشروطها، ونبذ العادات الاجتماعية السيئة، والمثقلة بالمظاهر والترف، يمثل مهمة بالغة الأهمية للعلماء والمفكرين وأهل الرأي، وذلك عبر تقديم النماذج الحيّة لذلك، وليس فقط من خلال الوعظ.
صحيح أن الظروف الموضوعية ما تلبث أن تفرض نفسها على الجميع بمرور الوقت، ولكن لماذا إطالة المعاناة وحشر الناس في إطار المنظومة القديمة لزمن طويل؟ إن اختصار الوقت والمعاناة والتداعيات ممكن، وتلك هي المهمة التي ينبغي أن يضطلع بها أهل العلم والرأي.
سيطالبنا البعض هنا بالحديث عن الجانب الرسمي من المأساة (سلوك الأنظمة والحكومات)، ممثلة في النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد، وكل ذلك يمثل جزءا من ضرورات النضال القادمة دون شك، ولكن الحل الأمثل هو أن يتزامن ذلك كله مع ما ذكرنا آنفا، لا سيما في الدول ذات الإمكانات المحدودة.
أضف تعليقك