بقلم.. وائل قنديل
هل تبدو مذبحة القرن في سنتها السابعة أكثر شحوبًا في الذاكرة الجمعية عما كانت عليه في أعوام سابقة؟ أخشى أن تكون قضية المذبحة في ميدان رابعة العدوية في القاهرة قد باتت في طريقها إلى الشحوب بالتقادم، ليس بوصفها كربلائية للبكاء والألم، إنما باعتبارها محدّدًا أكثر أهميةً في رسم ملامح المسألة المصرية، تعيين جوهرها السياسي والأخلاقي والإنساني، إن نظرنا إليها بوصفها حلقة دامية من حلقات التغيير السياسي الذي بدأ في مصر مع ثورة يناير/ كانون ثاني 2011.
قلت سابقًا إن "رابعة" هي قضية الإنسان أينما وجد.. ليست تخصّ جماعة الإخوان المسلمين، فقط، أو تيار الإسلام السياسي وحده.. بل يمكنك القول إنه صار هناك "الإنسان الرابعاوي" في قارّات الدنيا الست، ذلك الإنسان الرافض للدم وللظلم وللوحشة. وبناء عليه، ليس كل رابعاوي إخوانيا، كما أنه ليس كل إخواني رابعاويا، فالجرح أعمق وأوسع من التصنيف السياسي".
قضية مذبحة "رابعة العدوية" التي قطعت شرايين مصر، حصدت أرواح آلاف المواطنين بضربة طغيان واحدة، كان المتصوّر أن تكون محور الحركة للمشروع المصري الثوري المعارض، بشقيه، السياسي والحقوقي، خصوصًا أن الجريمة ثابتة بالأدلة الواضحة، فضلًا عن أنها كانت حاضرةً وبقوة على موائد الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
غير أن ذلك يتراجع عامًا بعد عام، كسلًا أو إهمالًا أو يأسًا.. أو أخشى أن أقول إنها صارت موضوعًا ثانيًا أو ثانويًا على أجندة النضال المصري في الخارج، الذي أوجد لنفسه، أو اختار لنفسه، أن يكون ملحقًا بمشاريع أخرى إقليمية ودولية، يخوضها مشجّعًا ومصفقًا ومهللًا، على نحو جعله أقرب إلى جمهورٍ في معركة، ليس طرفًا أصيلًا أو لاعبًا أساسيًا في معركته الخاصة.
صار الوجود المصري المعارض خارجيًا أكثر حضورًا وتفاعلًا في قضايا كونية ودولية، على نحو ربما كان أكثر من حضوره في قضيته الرئيسة. ولو نظرت إلى الأزمة الليبية، على سبيل المثال، ستجد أن قطاعات من المعارضة تشتبك معها على قاعدة: معارضة عبد الفتاح السيسي بتأييد أردوغان، أو تأييد أردوغان كرهًا في السيسي، لتكون المحصلة أن القضية الأم (الموضوع المصري) صار تفصيلة صغيرة أو عاملًا مساعدًا في موضوع محوري آخر.
طوال الوقت، تجد قضية الثورة المصرية بمواجهة الانقلاب والثورة المضادة مستنزفةً في خوض معارك جانبية أو من المفترض أن تكون كذلك، بصرف النظر عن جدارتها أو عدم جدارتها، كما يحدث في حالات الاستغراق الكامل في التعلق بفكرة عودة الخلافة والتعاطي مع التجربة التركية الراهنة وكأنها إعادة إطلاق لمشروع أمة إسلامية موحدة، لا أظن أن منشغلًا أو مشتغلًا بالسياسة يجد ما يسنده أو يجعل تحققه أمرًا واقعيًا.
في خط موازٍ، هناك استلاب للجهد والطاقة في موضوعاتٍ مقحمة إقحامًا على موضوع الثورة والتغيير، تشتعل وتخمد ثم تعاود الاشتعال في مناسباتٍ متعاقبة، من نوعية الربط المتعسف بين الحرية الجنسية وحرية الأوطان ونجاح الثورات، هي القضايا التي يتم الإلحاح وتسليط الضوء عليها إلى الحد الذي تتوارى فيه قضايا أساسية.
في وسط هذا المحيط الهادر من الاشتباكات، تنسحب قضية "رابعة"، أم المجازر في مصر والوطن العربي، إلى الظل، فتصبح مجرد وقفة للحزن في يوم 14 أغسطس/ آب من كل عام، الأمر ذاته ينطبق على مذابح مماثلة وقعت في سورية واليمن وليبيا، تحوّلت إلى مجرّد شارات حداد سوداء في التقويم السنوي، تقيد في سجل "حدث في مثل هذا اليوم".
خطورة هذا الاستلاب ليست فقط أنه يحوّل الموضوع الأصلي إلى ملحقٍ بالموضوع الجانبي، أو يجعل الرئيسي تابعًا للفرعي، إنما يوفر المجال لغسيل المواقف وتزييف التاريخ، يوفر الفرصة لمن استدعوا الفاشية المدجّجة بالسلاح، لكي يظهروا في مسوح الواعظين الأبرياء، من إعلاميين وسياسيين كانوا من المحرّضين على المذبحة. وفي كل عام نتفاءل وننتظر من أحدهم استفاقة ضمير واعتذار للدماء، فلا نجد إلا غطرسة وتلاعبًا بالسرديات من أولئك الذين يعضّون على فاشيتهم بالنواجز، مستندين إلى أن من الضحايا من يصل به الشطط إلى إهدار قضيته العادلة بخطابٍ منفر، ملحقًا ذاته بمعارك ليست من صميم جدول أعمال الثورة المصرية.
أضف تعليقك