يقولون: "إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة"، وهذا ما فعله عبد الفتاح السيسي، عندما فتش في دفاتره القديمة، فكانت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، فلجأ إلى دفاتر الغير، واستغل انتصار أكتوبر ليبني شرعية له!
مبارك هو آخر من استخدم النصر الذي تحقق في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، في التأكيد على أحقيته في استمرار حكمه، وكان عليه أن يقوم بالتزوير ليؤكد على هذا، والذي بدأ بتزوير صورة غرفة العمليات الشهيرة، ليحذف منها قائد أركان الجيش الفريق سعد الدين الشاذلي، ليحل هو محله. فإذا كان السادات قد مات، ومن يقف على يمينه في الصورة وهو وزير الحربية قد مات أيضا، فلا يوجد من ينازعه الحق في تولي الحكم وليوم يبعثون. وقد اختزل انتصار أكتوبر في الضربة الجوية، وهذه الضربة فيه، ومن كثافة الدعاية، فإن كثيرين تصوروا أنه من قاد سلاح الطيران بنفسه، وأنه من قام بالضربة الجوية بذاته، وليس لأنه كان في غرفة العمليات!
بيد أن محمد حسنين هيكل، وبما عُرف عنه من قدرة على تبديد شمل مبارك بمجرد كلمة أو جملة يقولوها فيتحول إلى رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، انتزع منه شرعية أكتوبر؛ "فالضربة الجوية هي عمل من أعمال الوظيفة". لكن مبارك لم يكن لديه ما يؤهله لموقع الرئيس إلا ذلك، ولأنه لا يجوز له الحكم باسم أكتوبر في وجود رئيس أركان حرب أكتوبر، فقد نكّل به وعاقبه بالسجن الانفرادي بحكم من المحكمة العسكرية، ثم إنه حذف صورته تماماً من مشهد غرفة العمليات، ومن بقي في هذه الصورة على قيد الحياة مثل الفريق عبد الغني الجمسي، عمل على تغييبه، فبدا كأن حضوره في هذا المكان هو لتقديم القهوة لقادة الجيش!
بعد الثورة:
وبعد الثورة كتبتُ أنها ستكون فرصة تاريخية ليعاد الاحتفال بحرب أكتوبر كما كان الحال قبل مبارك، والتي كان عنوانها هو عبور الحاجز المائي، وتحطيم خط بارليف. ولم يكن هناك عزف على نغمة الضربة الجوية إلا في عهد مبارك، والذي غيب السادات أيضاً، فلم يكن إلا كصورة باهتة من باب الشيء الذي هو لزوم الشيء عند الحديث عن انتصار أكتوبر!
ولم تمهلنا الحوادث كثيراً لرد الاعتبار لسلاح المهندسين في الحرب الذي هو عنوان النصر وليس سلاح الطيران، فقد وقع الانقلاب سريعاً وبدا السيسي يتعامل معه على مضض، فهو لم يشارك فيه، فقد تخرج من الكلية الحربية بعده بحول كامل، ولو اعتمده كانتصار للقوات المسلحة وباعتباره يمثل رمزاً لها، فإن هناك من هو أولى منه بتمثيل هذه الرمزية، ومنهم من هو منافس له في الحكم، كالفريق أحمد شفيق، والفريق سامي عنان!
منذ توليه الحكم بالانقلاب العسكري لم يحتفل السيسي بأكتوبر بشكل يليق بهذا الانتصار الكبير، فالأمر لا يتجاوز خطاباً باهتاً يلقيه في كل عام بهذه المناسبة
ومنذ توليه الحكم بالانقلاب العسكري لم يحتفل السيسي بأكتوبر بشكل يليق بهذا الانتصار الكبير، فالأمر لا يتجاوز خطاباً باهتاً يلقيه في كل عام بهذه المناسبة، ندوّن عليها ملاحظتنا في كل عام بأنه يحرص على ألا يذيعه في نفس اليوم (السادس من تشرين الأول/ أكتوبر). ففي العام الماضي مثلاً ألقى خطابه يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر. ثم إنه لا يستخدم مفردات كانت تستخدم في هذه المناسبة منذ النصر، مثل "العدو"، وهو الوصف الذي يلحق به "الإسرائيلي"، حتى بعد معاهدة السلام مع إسرائيل، فالنصر لا بد أن يكون قد تحقق في معركة وعلى "عدو"، وهذا "العدو" معروف للكافة بالاسم والرسم!
بيد أن السيسي لم يبدُ متمسكاً بهذا الخطاب العسكري التقليدي، وفي كل عام ألفت الانتباه إلى عدم امتثاله لهذا الخطاب، فتبدو حرب أكتوبر كما لو أنها تدخل في باب "جهاد النفس" الأمّارة بالسوء!
ولكنه في هذا العام، وجد نفسه بحاجة لهذا النصر ليؤكد به أهليته للاستمرار في الحكم. لقد ألمح قبل ذلك إلى أن حكم البلاد هو من اختصاص القوات المسلحة، وأنه عندما يقرر مغادرة الحكم سيسلم لها استقالته، لتختار بعد ذلك البديل. ولم يتحدث عن ذلك أحد بوضوح منذ حركة الضباط الأحرار في سنة 1952، فمن أين استمدت القوات المسلحة هذا الحق؟! لكنه السيسي الذي تواضع ليكون مجرد اختيار الجيش للحكم باعتباره صاحب الإرادة، بديلاً عن إرادة الشعب التي لم تمكنه من الحكم، وكان لا بد أن يقدم حيثيات لذلك، فكان الإيحاء بأنه حق مستمد من نصر أكتوبر. وحسناً أنه لم يرجعه لانقلاب العسكر في سنة 1952، لأن هذا يُذكر بشخص لا يريد أن يرتبط به، للأسباب ذاتها التي كانت وراء تعامله مع نصر أكتوبر على مضض (بجانب أنه ليس أحق به من الذين شاركوا فيه من الضباط الكبار كشفيق وعنان)، ويدفعه للهروب من الخطاب العسكري التقليدي. فهو لا يريد أن يغضب إسرائيل ولو بشطر كلمة، حتى وإن كان مبارك، كنز إسرائيل التاريخي، كان متمسكا بهذا الخطاب عند الحديث عن نصر أكتوبر ودوره (مبارك) التاريخي في إحراز هذا النصر.
هذا العام، وجد نفسه بحاجة لهذا النصر ليؤكد به أهليته للاستمرار في الحكم. لقد ألمح قبل ذلك إلى أن حكم البلاد هو من اختصاص القوات المسلحة، وأنه عندما يقرر مغادرة الحكم سيسلم لها استقالته، لتختار بعد ذلك البديل
استدعاء عبد الناصر:
ومنذ وقوع الانقلاب العسكري في تموز/ يوليو 2013، وهناك محاولات ناصرية للنفخ في السيسي لتقديمه على أنه خليفة عبد الناصر الذي لا يمل نجله "عبد الحكيم" من الإعلان عن أن والده هو من قاد من قبره ثورة 30 حزيران/ يونيو ضد الاخوان . ومبكراً دخلت في تحد مكتوب أن يقولها السيسي صريحة ماذا يمثل له عبد الناصر؟! وكتبت مبكراً مقالي الذي يحمل عنوان: "الاستدعاء القسري لعبد الناصر" المنشور في جريدة الراية القطرية بتاريخ 4 أيلول/ سبتمبر 2013، أي بعد الانقلاب بشهرين! ولم يقبل التحدي إلى الآن ليقول ماذا يمثل له عبد الناصر، حيث لم يذكره على طرف لسانه إلا بأسوأ ما في تجربته وهو الاستبداد، فقال إنه كان محظوظا بإعلامه!
لقد كانت ذكرى نصر أكتوبر هذا العام فرصة لحشد الموظفين بالتهديد، وغيرهم على قاعدة مقاولي الأنفار، للاحتفال بهذا النصر، وتأييده باعتباره بطل الحرب والسلام. وقد اختفت صور كل من شاركوا في هذه الحرب، بما في ذلك صورة السادات، وسُلمت صور السيسي للمشاركين في المهرجان، باعتبار أن السيسي هو رمز هذا الانتصار ويوشكون القول إنه صاحب الضربة الجوية!
كانت ذكرى نصر أكتوبر هذا العام فرصة لحشد الموظفين بالتهديد، وغيرهم على قاعدة مقاولي الأنفار، للاحتفال بهذا النصر، وتأييده باعتباره بطل الحرب والسلام. وقد اختفت صور كل من شاركوا في هذه الحرب، بما في ذلك صورة السادات، وسُلمت صور السيسي للمشاركين
وكان الاحتفال بذات الطريقة المعتمدة لهذه المرحلة الجديدة وغير المسبوقة، وهو الطبل والرقص، فلا خطبة عن هذا الإنجاز العسكري المهم، فقد يذهب أحدهم بعيداً ويعيد استخدام الخطاب المتوارث عن الانتصار على العدو الإسرائيلي و"مرمغة" أنف الجيش الذي قالوا إنه لا يُقهر في التراب، الأمر الذي لا يريده السيسي، الذي فرغ هذا الانتصار من محتواه أيضاً، كما هي العادة في كل عام، فكان الاحتفال به يوم 2 تشرين الأول/ أكتوبر، بدلاً من 6 تشرين الأول/ أكتوبر، وتقرر أن تكون الإجازة الرسمية بهذه المناسبة هي 8 تشرين الأول/ أكتوبر، بشكل أضحك الثكالى!
شرعية النصر:
فما يريده من انتصار أكتوبر هو مجرد عنوان يستخدمه في معركة الشرعية الخاسرة. وقد فاته أن أكتوبر لا تصلح كمبرر منطقي لشرعية الحكم العسكري التي تآكلت في عهد مبارك، ولم يبق فيها شيء لينتقل للسيسي أو حتى للجيش، فلم يغادر العسكر الحكم بهزيمة حزيران/ يونيو 1967، بل ثبت الحاكم العسكري بها دعائم حكمه بدلاً من عزله ومحاكمته، ولم يمثل نصر أكتوبر شرعية لبطلها الرئيس السادات، وهو يقتل على أيدي عسكريين، ويؤيد اغتياله اليسار واليمين!
ولو كان لانتصار أكتوبر قيمة، لما عاش رئيس أركان الجيش الفريق الشاذلي لاجئاً في الخارج ومحروماً من جواز سفره المصري، وبحكم قضائي اتهمه بالخروج على قيم المجتمع، وارتكاب من الأفعال ما يمس أمن الدولة، ولما تم سجنه بعد ذلك بحكم صادر من القضاء العسكري، ليودع في زنزانة انفرادية بسجن عسكري!
ولو كان نصر أكتوبر يمنح شرعية سياسية للحكم، لما أسقطت الجماهير مبارك، وهو، بعيدا عن الدور الذي قام بانتحاله لنفسه، كان أحد قيادات هذا النصر!
ولم تشفع المواقف في ميادين القتال لشارل ديجول من أن يخرج الشعب ضده، ثم يتنحى عن الحكم عندما أدرك أنه خسر شعبيته!
شرعية الحكم تمنحها الشعوب حتى للعسكريين المنتصرين، فما بالنا بالعسكريين الذين لم يحاربوا البتة؟!
أضف تعليقك