بقلم.. ياسر الزعاترة
"يوسي ميلمان"، ليس كاتبا أو محللا هامشيا في الكيان الصهيوني، فهو من أشهر الخبراء الأمنيين؛ وثيقي الصلة بالأجهزة الأمنية الصهيونية، وهذا يعني أن من العبث تجاهل شهادة له بهذا المستوى من الأهمية والإثارة.
يوم الأحد (18/10)، كتب مقالا في "هآرتس" بعنوان "إسرائيل تتفكك من الداخل، لكنها لن تُهزم مثل الصليبيين".
في بداية المقال، سعى إلى نفي أوجه الشبه بين وجود الصليبيين في فلسطين، ونهايتهم في "حطين"، وبين الاحتلال الصهيوني، وهي القضية التي تتمتع بإجماع في الأوسط العربية والإسلامية كنوع من التأكيد على نهاية الكيان، بوصفه "نبتة غريبة" في هذا المحيط العربي والإسلامي.
يشير الكاتب إلى أن وجود صهاينة ذهبوا هذا المذهب أيضا، من بينهم الشاعرة داليا رابيكوفيتش، والتي كتبت في 1966 قصيدة بعنوان "حطين". وكان ختامها يقول: "لم تكن لديهم مملكة بعد/ لم تكن لديهم حياة أو قدس/ كم كان الصليبيون متوحشين وساذجين/ لقد نهبوا كل شيء".
يعترف "ميلمان" بأن "المقارنة مغرية. فالصليبيون كانوا غزاة من أوروبا، مفعمين بالأيديولوجيا والإيمان الديني، واحتلوا البلاد (فلسطين) بقوة السلاح، وأقاموا ممالك مسلحة، ومثلوا ثقافة غربية في قلب الشرق الإسلامي، وحاولوا، لكنهم وجدوا صعوبة في الاندماج في محيطهم، وأنهكوا مرة تلو الأخرى في معارك، وضعفوا في أعقاب انقسامات وصراعات داخلية، إلى حد أن خارت قواهم وانتهى حكمهم".
ورغم اعترافه بوجود أوجه شبه بين الحالتين، إلا أنه يرفض المقارنة، مشيرا إلى أن المشروع الصليبي لم تكن له "رؤية قومية"، مثل تلك التي "نمت على أساسها الحركة الصهيونية".
ويتحدث هنا عن ما سمّاها "العلاقة التاريخية الواضحة للشعب اليهودي بأرض إسرائيل والقدس"، متجاهلا بالطبع أن للصليبيين مزاعم أيضا حول علاقة دينية بفلسطين، باعتبارها مهد المسيح.
في الجانب الآخر، برّر "ميلمان" رفضه المقارنة بين الحالة الصهيونية والحالة الصليبية من حيث النهاية بمعطيات القوة، وذلك بقوله: "إسرائيل دولة قوية، متقدمة اقتصاديا وتكنولوجيّا. وهي أيضا الدولة العظمى العسكرية الأقوى في المنطقة الممتدة من شرق المتوسط وحتى المحيط الهندي"، ثم تحدث عن "عملية التسليم من قبل الدول العربية بوجودها"، معتبرا أنها "عملية بطيئة حقا، لكنها مستمرة". وأن ذلك "تسليم ليس فقط بحكم الأمر الواقع، بل أيضا بحكم القانون، عن طريق اتفاقات سلام مع أربع دول عربية، وأيضا عدد من الدول التي يتوقع أن تسير في أعقابها".
وينتهي إلى نتيجة مترددة بالقول: "يمكن الافتراض بمعقولية عالية أن إسرائيل لن تُهزم في ساحة الحرب"، و"لا يوجد أي تهديد خارجي حقيقي عليها".
هنا يصل إلى النتيجة الأخرى التي تتحدث عن خطر آخر يتهدد الدولة، ويتهدد "الصهيونية كحركة قومية لمعظم الشعب اليهودي، وهو الخطر الداخلي".
في هذا السياق قدّم اعترافات خطيرة، ومن خلال فقرة طويلة قال فيها: "إسرائيل تتفكك كدولة وكمجتمع. الشروخ، الانقسام، الكراهية، الاشمئزاز المتزايد من قيم ليبرالية، والانقسامات السياسية وغيرها؛ بين اليمين وبين الوسط - يسار، بين العلمانيين والمتدينين، بين الشرقيين والأشكناز، كل ذلك يهدد النسيج الدقيق للوجود هنا. لذلك، يجب أن نضيف الاحتلال والقمع للشعب الفلسطيني، وتداعياته الخطيرة على الديمقراطية والمجتمع. هذه الظواهر لم تبدأ في سنوات حكم بنيامين نتنياهو، لكن في عهده تم تسريعها، بدرجة غير قليلة بمبادرته المتعمدة".
ثم يختم مقاله بفقرة تقارن الواقع الراهن بالماضي قائلا: "معظم سنوات وجودها؛ كانت للشعب في إسرائيل روح مشتركة، تبنتها الأغلبية وتكتلت حولها: إقامة الدولة، الاستيطان، الأمن، قيم الديمقراطية، الأخلاق والإيمان بعدالة الطريق. من أجلها كان الناس على استعداد للنضال، حتى لو كان يجب عليهم التضحية بحياتهم. تقريبا النسيج المشترك الذي وحّد الدولة آخذ في التآكل. عدد متزايد من الإسرائيليين؛ كبار وصغار على حد سواء، يعبّرون عن الخوف والذعر على وجودها. هذا ليس حنينا مصحوبا بالشفقة على الذات، على غرار قصيدة إريك آينشتاين بعنوان "يا وطني، إلى أين أنت ذاهب". هذا قلق أصيل وحقيقي، صرخة تنطلق من القلب". انتهى كلامه.
في التعليق على هذا المقال، يمكن القول إن الفصل الذي أجراه الكاتب بين البعد الداخلي والخارجي ليس صحيحا (ربما قصد ذلك كي لا يبث اليأس)، لا سيما حين تحدث عن قوة الكيان العسكرية، متجاهلا أن مناعته الداخلية هي الأهم في السياق، ليس فقط لأن المقاومة قد تأتي من الداخل (حرب عصابات ومقاومة)، على نحو يفقد القوة العسكرية والتكنولوجية قدرتها على الحسم، بل أيضا لأن ميزان القوى ذاته يتغير، من خلال الصواريخ الدقيقة، ومن خلال الطائرات المسيّرة، وسوى ذلك مما سيظهر لاحقا في ظل سباق التسلح الراهن. أما الأهم، فيتمثل في أن القوة العسكرية لا تكفي حين يحملها شعب مفكك ومهزوم من الداخل، وما جرى في حرب تموز 2006، وفي الحروب الثلاث الأخيرة مع المقاومة في قطاع غزة، يؤكد أن الجندي الصهيوني كان مهزوما وضعيفا، يتلطى وراء التكنولوجيا وثقل الحديد، ويختلف كثيرا عن الجندي القديم، كما أن مناعة المجتمع ذاته كانت أضعف بكثير.
كل ذلك يجعل من تسخيف المقارنة بين الحالة الصليبية والحالة الصهيونية، ضربا من التبشير بالقوة، والفرار من الحقيقة، لأن النتيجة هي ذاتها، سواءً انتهت القصة بـ"حطين" أخرى، أم بسيناريو من نوع آخر.
نهاية الثمانينيات، نشر المؤرخ السوري الراحل شاكر مصطفى بحثا في مجلة "شؤون عربية"، بعنوان "من الغزو الصليبي إلى الغزو الصهيوني وبالعكس"، وتحدث فيه عن كتاب عثر عليه يتحدث عن الاهتمام الصهيوني الرهيب بأوجه الشبه بين "حطين"، وبين معركة نهاية الكيان، وكيف يمكن تجنبها.
في البحث الذي نشرت عنه مقالا مطولا في حينه، قال مصطفى نقلا عن كتاب بعنوان "الإسلام والصليبيات" لكاتب صهيوني اسمه "عمانويل سيفان".. قال إن "ثمة فرق عمل كاملة في الجامعة العبرية تتخصص في هذا الموضوع، وكل ذلك من أجل قراءة المشهد بدقة متناهية، ولتجنب نهاية كنهاية حطين".
تبقى الإشارة إلى أن حديث "ميلمان" عن البعد الدولي والقانون، يتجاهل أن العالم يتغير، وأن الوضع الدولي الذي منح التفوق والحماية للكيان، آخذ في التغير أيضا.
"وتلك الأيام نداولها بين الناس".
أضف تعليقك