بقلم: سليم عزوز
من الأمثال المصرية الشائعة؛ "سكتنا له دخل بحماره"!
وهو مثل في وصف سلوك الذين أغراهم صمت الآخرين، ليتمادوا في غيهم، حد الاعتقاد - للإعراض عن الجاهلين - أنهم أصحاب الحق. وهو المثل الذي تذكرته عند رمي حمقى 30 يونيو في مصر خصومهم بأنهم كدهماء أمريكا، فبينما روج إعلام الانقلاب، بأن القوة التي استخدمت في مواجهة المظاهرات في نظام ديمقراطي تبرر جرائم نظامهم، فإن هؤلاء الحمقى ذهبوا لمقارنات تبرر غباءهم المستحكم عندما خرجوا على الرئيس المصري المنتخب، فكانوا كمن رمتني بدائها وانسلت!
كان من الطبيعي عند تذكر المثل "سكتنا له دخل بحماره"، مع الدمج عند النطق لـ"سكتنا له"، أن نتذكر الأزمة التي تسبب فيها مقال لي بدأته بهذا المثل، قبل عشرين عاماً، وكان سبباً في غضب الأخ العقيد معمر القذافي قائد الثورة الليبية، فهو المعني بالمثل في هذا المقال، واعتبره إهانة له، ولجأ للقضاء حتى درجة الاستئناف، واعتبرت المحكمة في حيثيات "براءة المتهم" أن المقال كله بما في ذلك المثل الشائع يدخل في باب النقد المباح!
إذاً لا بأس، فقد "سكتنا لهم فدخلوا بحميرهم"، وانشغلوا بالمقارنة، فحصار الكونجرس يشبه حصار المحكمة الدستورية العليا، من أنصار الرئيس محمد مرسي، وهو الحصار الذي دعا اليه الشيخ حازم أبو إسماعيل، وشارك فيه أنصاره، وهم هنا في مقارنتهم يعتبرون أن مثل هذا التصرف مخالف لقواعد الديمقراطية ويستوجب مواجهته بالقوة، كما فعلت الشرطة الأمريكية!
وهي مقارنات فاسدة ومتهافتة يلجأ اليها القوم، وقد أحيط بهم، وهم من مكّنوا الثورة المضادة في مهمتها بالانقلاب على ثورة يناير، فكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، أو كالذي أراد أن يغيظ زوجته فخصى نفسه!
ولأن الأيام أثبتت أنهم يستحقون المحاكمة بتهمة الغباء السياسي، لذا فإنهم يبحثون مع كل أزمة عن دليل براءة، وللدقة دليل إدانة للآخرين!
كاتب هذه السطور كان ضد حصار المحكمة الدستورية، وكنت أرى أنه لا مبرر له، ويستمر بالبلاد في طريق الفوضى، لا سيما وأنه لا توجد أمامها قضايا رفعت بالطريق السليم ضد شرعية الرئيس، ولم يكن يغيب عني دور المحكمة في تجاوز اختصاصاتها بالحكم بحل البرلمان، والتعامل مع الحكم المعيب بعد ذلك على أساس أنه موقف شخصي. فعندما أعاد الرئيس مرسي مجلس الشعب، نُشر أن المحكمة غاضبة، وهو ما استنكرته أنا وقتئذ، فالمحاكم ليست سلطة تنفيذية، ولم يحدث في التاريخ المصري أن غضبت محكمة لأن النظام لم يحترم أحكامها، فهناك مئات الأحكام لمجلس الدولة أهدر نظام مبارك حجيتها بدون غضب معلن منها!
ولم يكن بطبيعة الحال، يغيب عني الانحيازات السياسية للمحكمة الدستورية، ولهذا وعندما كان يبحث الباحثون بعد الثورة عن جهة تحمي الدولة المدنية، ولم يجدوا سوى الجيش ليقوم بهذه المهمة القومية، قلت أكثر من مرة إن هذا ضد طبيعة الأشياء، وإن كان لا بد من جهة فلتكن هي المحكمة الدستورية، بعد أن يعاد تشكيلها بما يؤكد استقلالها. فتدخلات مبارك في تعيين القضاة فيها كانت حاضرة في ذهني، ووصلت إلى حد تدخل حرمه في تعيين أول قاضية بها وتعيين مستشارها رئيساً لها.
ومهما يكن فإن "المحكمة الدستورية" ليست هي المقابل للكونجرس، ففضلا عن أن حصارها لم يكن أكثر من مظاهرة، فلم يُمنع داخل إليها، ولم يتورط المتظاهرون في اقتحامها، فإن الكونجرس هو مؤسسة منتخبة يقابلها قصر الحكم، حيث الرئيس المنتخب. ومن هنا يكون القوم بإسقاط واقعة اقتحام الكونجرس من قبل الغوغاء الأمريكيين، على المشهد المصري قبل الانقلاب العسكري، إنما قد أضروا بموقفهم، وقد تسيّروا بمعنى ذكروا سيرتهم!
لقد جرى حصار قصر الاتحادية، من قبل الغوغاء المصريين، لأكثر من مرة، وتجرأ الخارجون على القانون وحاولوا اقتحام القصر، الأمر الذي كاد يعرض حياة الرئيس محمد مرسي ومن معه للخطر، وكان الخطأ في عدم قيام الشرطة والحرس الجمهوري بمواجهتهم كما حدث في المشهد الأمريكي!
ولا نزال نتذكر واقعة "حمادة المسحول"، وهو من أذيع أنه تعرض للسحل هناك على يد "شرطة الرئيس محمد مرسي"، وعشنا أسابيع من النشر في الإعلام عن الواقعة، وهي الحادثة التي أمسك فيها التشكيل العصابي المسمى بجبهة الإنقاذ ونفخ فيها للتأكيد على إجرام السلطة، وغطت على جريمة حصار القصر الرئاسي وتسلق أشقياء لأسواره واستدعاء بلدوزر لهدمه، باعتبار أن هذا حق، ولم يفسد الحملة القومية للانتصار لـ"حمادة المسحول" ويبطل مفعولها إلا حجم التناقض في روايته وفي إقدامه وإدباره. وكان الخبراء في علم النفس الذين استعان بهم إعلام الثورة المضادة قد أجمعوا على أن "حمادة" سيطب ساكتاً إن رأى صوره مسحولاً، إلى آخر هذه الدعايات العاطفية!
لم تكن هناك سوابق في التعامل مع حصار مؤسسة منتخبة في النظم الديمقراطية، ولم يكن حتى أولئك الذين عاشوا التجارب الديمقراطية في الغرب سوى "فاشست صغاراً"، الدكتور محمد البرادعي نموذجاً. فلم يعتبروا بقواعد اللعبة الديمقراطية، أو إرادة الناس، تماما كما فعل المهرج دونالد ترامب الذي دعا أنصاره إلى ما فعلوا، لكن هناك كانت الديمقراطية العريقة فأمكن التعامل مع ما جرى على أنه خروج على قيم الديمقراطية، فكان التعامل معه بسيف القانون!
ودخلت النخبة الأمريكية على الخط تندد؛ ليس بإخراج هؤلاء من الكونجرس بالقوة وإقرار الإجراءات الاستثنائية، ولكن بما جرى اقتحاما وتحريضاً، فكان الإجماع على الإدانة هو الموقف الصحيح من الرؤساء السابقين، لا فرق بين "بوش" الذي ينتمي للحزب الجمهوري، و"كلينتون" و"أوباما" وهما من الحزب الديمقراطي!
بيد أن النخبة المصرية لم تكن على مستوى هذا الوعي بقيم الديمقراطية، ولم يكن لديها انحياز واضح لهذه القيم، وإنما مثلت امتدادات بائسة للنظم الفاشية والمستبدة!
وما زلت أتذكر كيف وُضعت "المتاريس" في المدخل المؤدي لشارع القصر العيني من ميدان التحرير، لمنع الوصول للبرلمان المصري بغرفتيه، فقد كانت هناك محاولات متكررة للاقتحام والتعطيل، وهي المحاولات التي لم تجد من يردعها من قوى الكفاح الفاشل، التي كانت تتمنى ذلك، وباعتبار أن الديمقراطية تبيح التظاهر، والاقتحام، والتعطيل!
وقد مدت الديمقراطية العجوز في الولايات المتحدة الأمريكية، الديمقراطية الناشئة بدرس العمر في قواعد فك الاشتباك والتعامل مع الغوغاء والهمج الذي يمثلون ضرراً عليها. ومن هنا، فمن العبث أن يكون عناصر 30 يونيو هم من يرون أن ترامب والذين معه هم من يمثلون الرئيس محمد مرسي وأنصاره، وكأنهم هم من يمثلون المؤسسات المنتخبة، وهو ذات توجه الأذرع الإعلامية للسيسي ولجانه الالكترونية!
فالدكتور محمد مرسي كان هو الرئيس المنتخب الذي يقابل بايدن، أم هم فيمثلون ترامب والشبيحة الذين استدعاهم في مواجهة إرادة الأغلبية، وأن الكونجرس يقابله قصر الاتحادية في الحالة المصرية، إبان وجود الرئيس محمد مرسي فيه. والحقيقة أنهم المثل الأكثر سوءاً من ترامب، لأنه في النهاية رئيس منتخب لا يريد أن يعترف بسقوطه في الانتخابات التالية، أو بانتهاء ولايته، وهم لم ينتخبهم شعب ولم يسبق لهم فوز.
وليحمدوا الله ويشكروا فضله أن التجربة الأمريكية مع أمثالهم لم تكن سابقة علينا، وإلا لكانت الدعوة بتحويلهم جميعا إلى "حمادة المسحول" بدون شفقة أو دعاية، والمرجح أنهم ما كانوا ليقدموا على هذه الخطوة التي قادها الجهل بالتعامل مع هذه الحالات في الأنظمة الديمقراطية.
لقد كانوا مثل دهماء وغوغاء الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يمثلوا الدولة ومؤسساتها المنتخبة!
فليحمدوا الله.
أضف تعليقك