بقلم: صادق أمين
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحْبِهِ ومَنْ والاه، واهتَدَى بهداه.
وبعدُ، فإنَّ ما تمرُّ به مصرُنا الحبيبةُ من محنةٍ ورَّطَها فيها قادةُ الانقلابِ العسكريِّ الفاشيِّ، الذي تُحَرِّكُ قائدَه أحلامُ السلطةِ وعِشْقُ الرئاسةِ، هي محنةٌ غيرُ مسبوقةٍ، فلأوَّلِ مرَّةٍ في تاريخِ هذا الشعبِ الحرِّ الكريمِ يكونُ جيشُه هو الذي يعتدِي عليه بدلًا من حمايتِه، ولأوِّلِ مرةٍ في تاريخِه ينزلُ جيشُه إلى شوارعِه بكلِّ هذا العَتَادِ، ويتركُ حدودَه وثكناتِه مكشوفةً لعدوِّه المتربِّصِ به، ولأوَّلِ مرةٍ يُعلِنُ أعداءُ الأمَّةِ الصهاينةُ وبكلِّ وقاحةٍ وصراحةٍ دعمَهم الكاملَ للجيشِ المصريِّ! بلْ يتجوَّلُ ساسةُ العدوِّ للترويجِ له في عواصمِ العالمِ واستجْداءِ الدَّعْمِ له من ساسةِ الدنيا، والدفاعِ عنه في كلِّ المنتدياتِ الدوليَّةِ، بعد أنْ نَبَذَتْه كلُّ قادةِ العالمِ الحرِّ، بلْ ويؤكِّدُ الصَّهاينةُ أعداءُ الأمَّةِ اطمئنانَهم لقيامِ الجيشِ المصريِّ بتحمُّلِ عِبْءِ مواجهةِ المقاومةِ الفلسطينيةِ نيابةً عن الصهاينة؟ فأيُّ هَوَانٍ أَوْصَلَنا إليه هذا الانقلابُ، وأيُّ عارٍ سيكتبُه التاريخُ عن قادةِ هذا الانقلابِ الآثم؟ وأيُّ خِزْيٍ سيلْقَوْنَه يومَ يلْقَوْن ربَّهم؟.
إنَّ هذا كلَّه يُوجِبُ على الأحرارِ الثائرينَ المجاهدينَ إدراكَ عِظَمِ المهمَّةِ التي يقومون بها في إسقاطِ هذا الانقلابِ، التي هي في الحقيقةِ ليستْ إنقاذًا لمصر فحَسْبُ، بل هي إنقاذٌ للبشريةِ كلِّها، ولِقِيَمِ الحريةِ والعدالةِ والكرامةِ الإنسانيةِ بشكلٍ عام، ومن ثَمَّ ينطلقون بروحِ الجَسارةِ والشجاعةِ وبعزيمةِ المؤمنينَ الصادقينَ في جهادِهم وثورتِهم، غيرَ آبِهين بحملاتِ التخويفِ الفارغةِ، وحملاتِ التَّخْذيلِ والتَّثْبيطِ والإرْجافِ المتتابعةِ، ومعتمِدين على اللهِ أولًا وأخيرًا، ثم على إيمانِهم بعدالةِ قضيتِهم، وثِقَتِهم بقدرتِهم على تحقيقِ أهدافِهم بإذن الله.
الظُّلْمُ عُنْوانُ الضَّعْف
إنَّ الظلمَ الكبيرَ بكلِّ صورِه الماديةِ والمعنويةِ الذي يمارِسُه الانقلابُ الفاشيُّ المدَجَّجُ بالأسلحةِ ضدَّ كلِّ حرٍّ أعزلَ في هذا الوطنِ ليس علامةَ قوَّةٍ، بل هو من أوْضَحِ مظاهرِ الضَّعْفِ والإفْلاسِ القِيَمِيِّ والأخلاقيِّ، وهو بَشيرٌ بقُرْبِ تحقيقِ الوعْدِ الإلهيِّ للمظلومينَ بالنَّصر، وقدْ قضى اللهُ قضاءً لا مردَّ له فقال ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾، وقضى سبحانه أنَّه ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، فهل يملكُ أحدٌ أنْ يُبَدِّلَ كلمةَ الله؟.
سمع ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما كعبَ الأَحْبارِ يقول: مَنْ ظَلَمَ خَرِبَ بَيْتُه، فقال: تَصْدِيقُه في القُرْآن: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾. وقيل: الظُّلْمُ أَدْعَى شَيْءٍ إلَى تغييرِ نعمةٍ وتَعْجيلِ نِقْمَة. وقريبًا نَرَى سقوطَ الانقلابِ الظالمِ تصديقًا لوعْدِ اللهِ إنْ شاءَ الله.
دُعاءُ المَظْلُومين سلاحٌ بَتَّار
إنَّ دعوةَ المظلومِ –وبخاصةٍ في جوفِ اللَّيْل- سلاحٌ من أمْضَى الأسلحةِ التي يغفَلُ عنها الظالمون، بل هُم يستهزِئون بها، بعد أنْ صارتْ قلوبُهم كالحجارةِ أو أشدَّ قسوةً، فهم في غِرَّةٍ آمِنُون من مكرِ الله، مستهترون بالدعاءِ وآثاره.
ويذكرُ لنا التاريخُ أنَّ بعضَ الظلَمَةِ قال له أحدُ المظلومين: اتَّقِ اللهَ، وكُفَّ عني، وإلَّا دعوْتُ اللهَ تعالى عليْك؛ فقال الظالمُ: ادْعُ بما شئتَ؛ فما مضتْ أيامٌ حتى أُخِذَ الظالمُ وعُذِّب، فكتبَ إليه المظلومُ:
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ وَمَا تَدْرِي بِمَا صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيْلِ لَا تَهْدَأ وَلَكِنْ لَهَا أَجَلٌ وَلِلْأَجَلِ انْتِهَاءُ
ولِمَ لا، والنبُّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسُه كان يتعوَّذُ باللهِ من دعوةِ المظلومِ، ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرَ ... وَمِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ».
واللهُ سبحانه وتعالى قد تعهَّد بإجابةِ دعوةِ المظلومِ، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»، وقَالَ أيضًا: «ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ»، وقَالَ أيضًا: «دَعْوَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمَرْءِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ».
وحتى لو كان المظلوم فاجرًا أو كافرًا، فدعوتُه مستجابةٌ، فقد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ»، وقَالَ أيضًا: «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ»، ومما جاء في صُحُفِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ، لَمْ أَبْعَثك لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَكِنِّي بَعَثْتُك لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لَا أَرُدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ».
فالإجابةُ لدعوتِه؛ لأنه مظلومٌ، لا لشخصِه، فكيف إذا كان المظلومُ من أهلِ التَّقْوَى والخيرِ والإصلاحِ؟!
ذلك أنَّ المظلومَ يسألُ اللهَ حقَّه، واللهُ هو الحقُّ المبينُ، لا يمنعُ أحدًا حقَّه، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ: «يَا عَلِىُّ اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ اللهَ حَقَّهُ، وَإِنَّ اللهَ لَنْ يُضَيِّعَ لِذِى حَقٍّ حَقَّه».
سرعة إجابة دعوة المظلوم
إنَّ دعوةَ المظلومِ تُفْتَحُ لها أبوابُ السماءِ، وتصعدُ إلى اللهِ بأسرعَ من البرق، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «إيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ كَشَرَارَاتِ نَارٍ حَتَّى تُفْتَحَ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ»، وقولُه «كَشَرَارَاتِ»: كنايةٌ عن سرعةِ الوصول.
قَالَ الحكماءُ: «أَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ: صَرْعَةُ الظَّلُومِ، وَأَنْفَذُ السِّهَامِ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَمَنْ طَالَ عُدْوَانُهُ زَالَ سُلْطَانُه».
خَفْ دعوَةَ المظلومِ، فهيَ سريعةٌ طلعَتْ، فجاءَتْ بالعذابِ النّازِلِ
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَدَعْوَةَ المَظْلُومِ وَبُكَاءَ اليَتِيمِ، فَإِنَّهُمَا يَسْرِيَانِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَام»
فكيفَ إذا كان المظلومُ يتيمًا قُتِل أبوه أو أمُّه أو ابنُه أو ابنتُه أو أخوه أو أختُه أو زوجُه أو عائلُه، بغير حقٍّ؟ فكيف إذا حُبِست أمُّ اليتيمِ المظلومةُ بعدَ استشهادِ أبيهِ علَى يَدِ الظَّلَمَة؟.
لا تَظْلِمَنَّ إذَا ما كُنتَ مُقْتَدِرًا فالظُّلْمُ يرجعُ عُقْبَاهُ إلى النَدَمِ
تنامُ عَيْناكَ والمظلومُ مُنْتَبِهٌ يَدْعُو عليكَ وعينُ الله لم تَنَمِ
قال بعضُ السَّلف: «دعوتان أرجُو إحداهما وأخافُ الأخرى: دعوةُ مظلومٍ أَعَنْتُه، ودعوةُ ضعيفٍ ظلمتُه».
تصوَّرْ حالَ ذلك الظالمِ المخذُولِ، وهو فرحٌ بظلمِ الناسِ، صلَفًا وكِبْرًا، أو سَفَهًا وجهْلًا، ينامُ مِلْءَ عينيْه، وأولئك المظلومُون قائمُون يَدْعُون اللهَ عليه، ويَجْأَرُون إليه بأن ينتقمَ منه، يُشَتِّتَ شملَه، ويُعَجِّلَ عُقوبَتَه، ويُنزلَ به بأْسَه، ويُحِلَّ عليه سخطَه، ويأخذَه أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِر. وقد قيل: إنما تَنْدَمِلُ منَ المظلومِ جراحُه إذَا انكسَر من الظالمِ جناحُه.
بَغَي، ولِلْبَغْيِ سِهَامٌ تَنْتَظِرْ
أَنْفَذُ في الْأَحْشَاءِ مِنْ وَخْزِ الْإِبَرْ:
سِهَامُ أَيْدِي الْقَانِتِينَ في السَّحَرْ
هل يتذَكَّرُ الظَّالِمُون؟
مما لا يُدركُه الظالمُ الغارقُ في غفلتِه المغترُّ بما آتاه اللهُ من أسبابِ الغَلَبَةِ أنَّ فوقَه مَنْ هو أقوى منه، فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ» فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ».
وَمَا مِنْ يَدٍ إلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلَا ظَالِمٍ إلَّا سَيُبْلَى بِأَظْلَمِ
وقيل: إذا ظلمتَ مَنْ دُونَك عاقَبَك مَنْ فَوْقَك.
كلما اشتدَّ الظُّلْمُ قوِيَ تأثيرُه في النفسِ فاشتدَّتْ ضَرَاعةُ المظلومِ، فقَوِيَتْ استجابةُ دُعائِه، وقد روى وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ قال: بني جبَّارٌ من الجبابرةِ قصرًا وشيَّدَه، فجاءتْ عجوزٌ فقيرةٌ فَبَنَتْ إلى جانبِه كُوخًا تَأْوِي إليْه، فركب الجبَّارُ يومًا وطافَ حولَ القصرِ فرأى الكوخَ، فقال: لمن هذا ؟ فقيل: لامرأةٍ فقيرةٍ تَأْوِي إليْه، فأمر به فهُدِم، فجاءت العجوزُ فرأتْه مهدُومًا، فقالت:
مَنْ هدمَه؟ فقيل: الملكُ رآه فهَدَمَه، فرفعت العجوزُ رأسَها إلى السماء وقالتْ: يا ربِّ إذا لم أَكُنْ أنا حاضرةً فأين كنتَ أنت؟ قال: فأمرَ اللهُ جبريلَ أن يَقْلِبَ القصرَ على مَنْ كان فيه، فقَلَبَه.
ومما كان يكتبُ به عمرُ بنُ عبد العزيز إلى وُلَاتِه: «أما بعدُ، فإذا دَعَتْكَ قُدرتُك علَى الناسِ إلى ظُلمِهم فاذْكُرْ قُدرةَ اللهِ على عُقوبتِك، وذَهابَ ما تأتي إليهِم، وبقاءَ ما يُؤْتَى إليك، والسلام».
وقال أحدُ السَّلَف: «ما هِبْتُ أحدًا قطُّ هَيْبَتِي رجلًا ظلمْتُه، وأنَا أعلمُ أنَّه لا ناصرَ له إلا الله، يقول: حَسْبِي اللهُ، اللهُ بيني وبينَك!».
وفي بعضِ الآثار: «يَقُولُ اللَّهُ: اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا يَجِدُ لَهُ نَاصِرًا غَيْرِي»، وفي بعضها: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْتَقِمَنَّ مِنْ الظَّالِمِ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، وَلَأَنْتَقِمَنَّ مِمَّنْ رَأَى مَظْلُومًا فَقَدَرَ أَنْ يَنْصُرَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ».
دائمًا يتأخَّرُ الظالمون في فَهْمِ الدَّرْس
مع أنَّ اللهَ يضربُ لنا الأمثالَ في إهلاكِ الظَّالمين حينًا بعد حينٍ، إلَّا أنَّ كلَّ ظالمٍ يتصوَّرُ أنه استثناءٌ من قانون الله في أخْذِ الظالمين، ولا يَعِي الدرسَ إلا بعد أنْ يُصبِحَ هو درسًا وعبرةً، وقبل ثلاثِ سنوات قال طاغيةُ تونس لشعبِه بعد فواتِ الأوان: «أنا فهمْتُكم»، وهو ذاتُ المنطقِ الذي سبق إليه فرعونُ الذي ظلَّ على بغيِه وعُدوانه ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
ومن الدروسِ المشهورةِ في تاريخنا: نكبةُ البَرَامِكَة، تلك الأسرةِ التي تولَّت الوزارةَ في الدولةِ العباسيةِ، فعاثتْ في الأرضِ فسادًا، فلما دارتْ عليهم الدائرةُ، قال أحدُهم لأبيه وهم في القُيودِ والحبْسِ: يا أبتِ، بعدَ الأمرِ والنَّهْى والأموالِ العظيمةِ أَصَارنا الدَّهْرُ إلى القيودِ ولُبْسِ الصوفِ والحبس! فقال له أبوه: «يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ، غَفَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ يَغْفُل اللهُ عَنْهَا» ثم أنشأ يقول:
رُبَّ قَوْمٍ قَدْ غَدَوْا في نِعْمَةٍ زَمَنًا والدَّهْرُ رَيَّانُ غَدِقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمْ ثُمَّ اَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
وفي تاريخِنا القريب، كان حمزةُ البسيونيُّ أحد الذين يعذِّبُون الإخوانَ المسلمين في سجنِ جمالِ عبدِ الناصر، ويقولُ في كلمةٍ له ساقطة: «أين إلُهكمْ لأضعَهُ في الحديدِ؟» ثم دارتْ عليه الدائرةُ فحُبِس في ذاتِ السجنِ مُدَّةً، ولما أُخرجَ منه اصطدمتْ سيارتُه -وهو خارجٌ من القاهرةِ إلى الإسكندريةِ- بشاحنةٍ تحملُ حديداً، فدخل الحديدُ في جسمِه منْ أعلى رأسِهِ إلى أحشائِه، وعَجَزَ المنقِذُون أنْ يُخرجوُه إلا قِطَعًا! ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
وصدقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
وختامًا..
ففي قوله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ وعيدٌ للظالمين، وتعزِيةٌ وبشارةٌ عُظمى للمظلومين، أن نصرَ الله له قريبٌ، هذا في عمومِ المظلومين المسلمِ والكافر، فكيف إذا كان المظلومُ أمةً مسلمةً لله، والظالمون يُبالِغون في ظُلمِهم؟.
ما علينا نحن المظلومين ونحنُ نقوم بثورتِنا الرائعةِ وفعالياتِنا السلميةِ المبدِعةِ إلا أن نستمِدَّ النصرَ بالدُّعاءِ والابتهالِ والتضرُّعِ بين يدي الله أن يُعجِّل نصرَنا، وأن يَخْذلَ ظالِمَنا، واثِقين أن اللهَ تعالى سيجيبُ دعاءَنا نحن المضطرين، حتى لو تأخرت الإجابةُ حينًا في نظر الناس، فقد قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي ؛ لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ». وتأمَّلْ قولَ ابنِ عطاء الله: «لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَد العَطاء مَعَ الإلْحاح في الدّعَاءِ مُوجِبَاً ليأسِكَ، فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ لا فيما تختاره لنَفْسكَ، وفي الوقْتِ الذي يريدُ لا في الوقْت الذي تُريدُ».
اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، والعِزَّةِ الَّتِي لا تُضَام، عَلَيْكَ بِالظَّالِمِينَ الانْقِلَابِيِّينَ، وبِمَنْ حَمَى لَهُمْ ظَهْرًا، وبِمَنْ أَطَاعَ لَهُمْ فِي البَاطِلِ أَمْرًا، وبِمَنْ سَوَّغَ لَهُمْ مُنْكَرًا، وعَلَيْكَ بِمَنْ قَتَلَ الأبْرِيَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ، وبِمَن اعتَقَلَ الشُّرَفَاءَ بغَيْرِ حَقٍّ، وبِمَنْ آذَى الْمُسْلِمينَ والسِّلْمِيِّينَ بغَيْرِ حَقٍّ، اللَّهُمَّ لَا تُصْلِحْ لَهُمْ عَمَلًا، ولَا تُحَقِّقْ لَهُمْ رَغْبَةً ولَا أَمَلًا، وَزِدْهُمْ يَا رَبَّنَا سُقُوطًا وفَشَلًا، ولَا تَرْفَعْ لَهُمْ رَايَةً، وَلَا تُحَقِّقْ لَهُمْ هَدَفًا ولَا غَايَةً، وأَخْزِهِمْ واجْعَلْهُمْ للنَّاسِ عِبْرَةً وآيَة، واكْشِفْ عَنَّا الْغُمَّةَ، واجْمَعْ لَنَا الْكَلِمَة، وَأّتِمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَة، وَخُذْ بِثَأْرِنَا ممَّنْ ظَلَمَنَا، وأَرِنَا فيه ثَأْرَنا، وأَقِرَّ بِذَلكَ عُيُونَنا، وخُذْ بِثَأْرِ الشُّهَدَاءِ والْمُصَابِينَ، وخُذْ بِثَأْرِ الأَرَامِلِ والثَّكَالَى واليَتَامَى مِمَّنْ قَتَلَ أوْ أَمَرَ بِقَتْلِ أَوْ حَرَّضَ عَلَى قَتْلِ ذَوِيهِمْ بغَيْرِ حَقٍّ، واحْفَظْ بِلَادَنَا آمِنَةً مُطْمِئَّنَة يا رَبَّ العَالَمِين.
أضف تعليقك