• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
Jan 29 21 at 03:04 PM

بقلم: سيف الدين عبدالفتاح

نصل مع عبد الرحمن الكواكبي، مع نهاية كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، إلى محطته الأخيرة، والمهمة في السعي إلى رفع الاستبداد؛ وقد حدّد، في مبحثه هذا، ثلاثة قواعد في رفع الاستبداد "أولها أن الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة. وثانيتها الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة إنما يُقاوم باللين والتدرُّج. وثالثتها يجب قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد". وهي قواعد على ما تبدو، كما يعبر عن ذلك الكواكبي، ببادي الرأي قد يتصوّر أنها قد تكون في مصلحة المستبد واستقراره واستمراره "تُبعد آمال الأسراء، وتسرُّ المستبدّين؛ لأنَّ ظاهرها يؤمنِّهم على استبدادهم". ولكنه يستدرك على هذا الفهم الظاهري مذكّرا "ولهذا أذكِّر المستبدّين بما أنذرهم الفياري المشهور؛ حيثُ قال: "لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير"، وإني أقول: كم من جبّار قهّار أخذه الله أخذ عزيزٍ منتقم". ومن المهم في هذا التذكير التأكيد على تلك المقولة الذهبية التي أوردها في هذا السياق "فكم من جبّار عنيد جُنِّد له مظلوم صغير"؛ هذه المقولة المفتاحية لها من الشواهد المهمة في الثورات العربية التي يمر عليها عقد كامل. محمد البوعزيزي في تونس وخالد سعيد في مصر اللذان شكلا شرارة للفعل الاحتجاجي الواسع.


يركّز هذا المقال على الأولى من تلك القواعد، كون "الأمَّة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة"؛ هذه القاعدة الذهبية، والتي تشير، بحق، إلى مسألة وعي الأمة؛ وعي الأمة الشعوري والوجداني، وكذا وعي الأمة الفكري والثقافي؛ إن الوعي كقضية معنوية، والتي تتعلق بحال الوعي الجمعي للأمة، إدراكا وشعورا ومعرفة وإحاطة؛ إن حالة الوعي تلك بامتداداتها هي التي تعيّن حال الأمة وقدراتها، ذلك "إنَّ الأمَّة إذا ضُرِبَت عليها الذِّلَّة والمسكنة، وتوالت على ذلك القرون والبطون، تصير تلك الأمَّة سافلة الطِّباع حسبما سبق تفصيله في الأبحاث السَّالفة، حتى إنَّها تصير كالبهائم، أو دون البهائم، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف للاستقلال قيمة، أو للنظام مزية، ولا ترى لها في الحياة وظيفة غير التابعية للغالب عليها، أحسنَ أو أساء على حدٍّ سواء، وقد تنقم على المستبدِّ نادراً، ولكنْ، طلباً للانتقام من شخصه لا طلباً للخلاص من الاستبداد، فلا تستفيد شيئاً، إنما تستبدل مرضاً بمرض؛ كمغصٍ بصداع".

 

"وقد تقاوم المستبدَّ بسَوق مستبدٍّ آخر تتوسَّم فيه أنَّه أقوى شوكةً من المستبدِّ الأول، فإذا نجحت لا يغسل هذا السائق يديه إلا بماء الاستبداد، فلا تستفيد أيضاً شيئاً، إنما تستبدل مرضاً مزمناً بمرضٍ حديث، وربما تُنال الحرية عفواً، فكذلك لا تستفيد منها شيئاً؛ لأنَّها لا تعرف طعمها، فلا تهتمُّ بحفظها، فلا تلبث الحرية أن تنقلب إلى فوضى، وهي إلى استبدادٍ مشوَّشٍ أشدُّ وطأةً، كالمريض إذا انتكس. ولهذا؛ قرَّر الحكماء أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة –غالباً- تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً".


إن الوعي الممتد القائم على الوعي الآني بالحال والعلم بالمخارج من هذه الأحوال السيئة؛ وإمكانات صناعة البديل وتبديل الأحوال السيئة بخير منها؛ واتسعت دائرة العلم والوعي في آحاد الأمة وجموعها، حتى يصير الوعي عميقا وشاملا أكثر الأمة؛ هذا الانتشار الواسع والتراكم البصير يمثل قوة دافعة جامعة رافعة للأمة وقدراتها، حتى تبلغ مقاصد التغيير المقصود والمنشود، "فإذا وُجِد في الأمَّة الميتة من تدفعه شهامته للأخذ بيدها والنهوض بها فعليه أولاً: أن يبثَّ فيها الحياة وهي العلم؛ أي علمها بأنَّ حالتها سيئة، وإنَّما بالإمكان تبديلها بخيرٍ منها، فإذا هي علمت بطبعه من الآحاد إلى العشرات، إلى ...، حتى يشمل أكثر الأمَّة، وينتهي بالتحمُّس ويبلغ بلسان حالها إلى منزلة قول الحكيم المعرّي: إذا لم تقُم بالعدل فينا حكومةٌ/ فنحن على تغييرها قُدَراء
وهكذا ينقذف فِكرُ الأمَّة في وادٍ ظاهر الحكمة يسير كالسيل، لا يرجع حتى يبلغ منتهاه".


ينبه الكواكبي إلى عنصرين مهمين يعدّان مادة التغيير الأساسية، القيادة والناشئة من الشباب، "ثمَّ إنَّ الأمم الميتة لا يندر فيها ذو الشَّهامة، إنما الأسف أنْ يندر فيها من يهتدي في أوَّل نشأته إلى الطريق الذي به يحصل على المكانة التي تمكِّنه في مستقبله من نفوذ رأيه في قومه. وإنِّي أنبِّه فكر الناشئة العزيزة أنَّ من يرى منهم في نفسه استعداداً للمجد الحقيقي فليحرص على الوصايا الآتية البيان".

أضف تعليقك