بقلم.. د. يوسف القرضاوي
من معاني الشمول في الإسلام: أنه رسالة للإنسان في كـل مجالات الحياة، وفي كل ميادين النشاط البشري. فلا يدع جانبًا من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف: قد يتمثل في الإقرار والتأييد، أو في التصحيح والتعديل، أو في الإتمام والتكميل، أو في التغيير والتبديل، وقد يتدخل بالإرشاد والتوجيه، أو بالتشريع والتقنين، قد يسلك سبيل الموعظة الحسنة، وقد يتخذ أسلوب العقوبة الرادعة، كل في موضعه.
المهم هنا أنه لا يدع الإنسان وحده ـ بدون هداية الله ـ في أي طريق يسلكه، وفي أي نشاط يقوم به: ماديا كان أو روحيًّا، فرديًّا أو اجتماعيًّا، فكريًّا أو عمليًّا، دينيًّا أو سياسيًّا، اقتصاديًّا أو أخلاقيًّا.
إن الإسلام كما قال المرحوم العـقـاد ـ هـو العقيدة المثلى للإنـسـان مـنـفـردًا أو مجتمعًا، وعاملًا لروحه أو عاملًا لجسده، وناظرًا إلى دنياه، أو ناظرًا إلى آخرته ومسالمًا أو محاربًا، ومعطيًا حق نفسه، أو معطيًا حق حاكمه وحكومته. فلا يكون مسلمًا وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلمًا وهو يطلب الدنيا دون الآخرة ولا يكون مسلمًا لأنه روح تنكر الجسد، أو لأنه جسد ينكر الروح، أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة أخرى.. ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه، في جميع حالاته، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
«إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية، وظواهرها الاجتماعية، هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه كـل شامل، فيستريح من (فصام) العقائد التي تشطر السريرة شطرين ثم تعيا بالجمع بين الشرطين على وفاق»(1) .
يريد الكاتب رحمه الله، أن بعض الديانات كالمسيحية، ارتضت أن تقسم الحياة نصفين: نصف للدين تقوده الكنيسة.. ونصف للدنيا تقوده الدولة. كما ذكرنا من قبل.
وسند رجال المسيحية في ذلك ما حكاه إنجيلهم عن المسيح عليه السلام أنه قال لمن سأله عن قيصر قولته المشهورة: «أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»!
ولكن الإسلام ينكر هذه القسمة للحياة ويرفضها لأمرين:
الأول: أن الإسلام يجعل الكون كله والخلق كلهم ملكًا لله، وليس لقيصر فيه ذرة واحدة. فقيصر إذن وما لقيصر لله الواحد القهار. وفي هذا يقول القرآن: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ} (يونس:66)، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (طه:6)، {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83).
فلا يجوز في عقيدة الإسلام أن يخضع المسلم ـ مختارًا ـ لأمر قيصر، وهو قادر على إخضاع قيصر لأمر الله ولا يجوز أن يعطي ظاهره لقيصر، وباطنه لله: {بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} (الرعد:31).
والثاني: أن الحياة بكل جوانبها كتلة واحدة، لا تقبل الانقسام والتفريق، إلا في الورق أو الرؤوس. أما في الواقع فالحياة كل لا يتجزأ. ولا ينفصل فيه دين عن دولة، ولا اقتصاد عن أخلاق، ولا فرد عن أسرة، ولا أسرة عن مجتمع.
ولهذا تحاول كل المذاهب الكبرى السيطرة على كل نواحي الحياة، وتوجيهها حسب فكرتها وعقيدتها. حتى الكنيسة نفسها في العصور الوسطى بأوربا، لم تطبق عمليًّا، ما جاء في الإنجـيـل نظريًّا. وحاولت هـي أن تأخـذ مـكـان قيصر أو ـ على الأقل ـ تسيطر عليه، وتدير السياسة من خلاله.
...................
*من كتاب «الخصائص العامة للإسلام» لفضيلة الشيخ.
(1) انظر: الاسلام في القرن العشرين للعقاد، ص15، 16، طبعة نهضة مصر.
أضف تعليقك