• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
Feb 11 21 at 03:45 PM

بقلم.. وائل قنديل

كان في حياته مرصّعًا بالألقاب التالية: فخر العسكرية المصرية، اللواء أركان حرب إبراهيم عبد العاطي، المصري العبقري، رمز العلماء والمخترعين العسكريين، الذي أذهل العالم باختراعه الفريد لعلاج كل الأمراض .. اللواء دكتور إبراهيم عبد العاطي، هدية الهيئة الهندسية للقوات المسلحة إلى العالم.

لكنه بعد أن مات في الأسبوع الماضي، جرّدوه من كل الألقاب، بل من كل الرتب العسكرية، إذ نشر خبر رحيله تحت عنوان موحد في كل الصحف والمواقع المصرية، حكومية، أو خاصة "وفاة إبراهيم عبد العاطي".

 

كل شيء في الصحافة المصرية يتم بمقادير وحسابات محدّدة، عن طريق ضابط إيقاع يتحكّم في كل شيء من خلف الستار. ومن ثم فإن إجماع هذه النوافذ الإعلامية على تعريف واحد للراحل، يخلع عنه كل الرتب والأوصاف والنياشين التي منحت له مع هستيريا الاختراع العسكري القومي، الذي اشتهر باسم "جهاز الكفتة"، هذا الإجماع يعني أن نظام عبد الفتاح السيسي قرّر أن يُضرم النار في أسطورة اللواء المخترع، ويُدخله القبر محرومًا من كل ما أسبغوه عليه من ترقيات ورتب.

جنازة إبراهيم عبد العاطي، الذي كان أهم وأخطر أدوات عبد الفتاح السيسي للسيطرة على الجماهير بالأوهام وخدع سينما الخيال العلمي، لم تكن عسكرية على الإطلاق، إذ لم يدفن ملفوفًا في العلم المصري، مصحوبًا بالموسيقى العسكرية. كما لم تظهر في الصور القليلة المنشورة لمراسم الدفن أرتالٌ من السيارات المصفّحة، ولم يحضر أحد من القيادات العسكرية والسياسية. فقط ظهر عدد محدود من أقاربه، يودّعونه ويدعون له.

قبل أن تسأل ما الذي حصل لكي يتحول إبراهيم عبد العاطي من جنرال عبقري متفرّد، بنظر الإعلام المتعسكر، إلى شخص عادي، من المهم أن نسأل: ما هذه النذالة وهذا الجحود مع شخصٍ جعلوه نجمًا ملء السمع والبصر، وفرضوه أيقونةً للتفوق العلمي والنبوغ الطبي، ثم قرّروا فجأة أن يعيدوه ميتًا إلى حالة شخصٍ بلا أي أهمية علمية، أو قيمة وطنية؟

لماذا لم تهتم الفضائيات التي كانت تفخر باستضافته، والصحف التي كانت تتسابق على الظفر بأخبار اختراعاته، بتغطية جنازته، واستكتاب الذين يرثون هذه الخسارة الفادحة في قاعدة مصر العلمية؟.

أذكر أنه، في ذروة الانشغال بجهاز إبراهيم عبد العاطي في العام 2014، وتصويره الإنجاز العسكري الذي لا يقل روعة وأهمية عن عبور أكتوبر 1973، أن تناثرت شائعات عن وفاة اللواء أركان حرب المخترع إبراهيم عبد العاطي، فتطلب الأمر أن تتدخل مؤسسة الرئاسة والجهات السيادية العليا لنفي الشائعة، وطمأنة مصر والعالم بأن الجنرال النابغة بخير. ووقتها نشر موقع "صدي البلد" نفي الخبر بالصياغة التالية "نفى مصدر سيادي مسؤول ما يتردّد على مواقع التواصل الاجتماعي حول وفاة اللواء ابراهيم عبد العاطي، صاحب اختراع جهاز الجيش لعلاج فيروس سي والإيدز".

إذن، كان الرجل هو الجيش، والجيش هو الرجل، عندما كان على قيد الحياة. ومع ذلك تركه الجيش يموت وحيدًا، من دون أن يكلف نفسه بتشييعه، في جنازةٍ عسكرية، تليق بتلك الحيثية الهائلة التي مُنحت له، عندما كان الحاكم الأوحد، القادم للرئاسة من حزب الجيش، بحاجةٍ إلى أكبر كميةٍ ممكنةٍ من الأوهام القابلة للاستخدام بوصفها أحلامًا وطنية ومشاريع قوية تزلزل الكون.

كان اختراع إبراهيم عبد العاطي، إلى جانب اختراع قناة السويس الجديدة، مفروضيْن على الجميع، باعتبارهما من المقدّسات التي ليس مسموحًا لأحد بالتشكيك أو الطعن أو حتى المجادلة فيهما. ومن يتهوّر ويفعل ذلك يتم تكفيره ورجمه، أو شلحه ونفيه في الأرض، مثل عصام حجّي الذي كان على رأس الفريق العلمي المساعد للجنرال عبد الفتاح السيسي، والذي جرى إبعاده وتخوينه وتكفيره بتهمة الطعن في صحة اختراع الجيش.

منذ البداية، كنت أرى  أن إبراهيم عبد العاطي ضحية حالةٍ من اللوثة القومية، صنعها عبد الفتاح السيسي، وكما وصفته مبكرًا جدًا كان "ذلك المسكين الذي جاءوا به من كهف مظلم، وصنعوا له زفّة إعلامية بوصفه اللواء العسكري الذي قضى على مشاكل مصر والعالم مع الفيروسات القاتلة".

تراجيديا ظهور إبراهيم عبد العاطي واختفائه تصلح وحدها نموذجًا لانتهاك آدمية الفرد وإهانة مفهوم الوطنية، حين يتم استعمال الإنسان (عبد العاطي وغيره) وعاءً لتخليق الأكاذيب القومية الكبرى، وفرضها على الأمة، بوصفها أقانيم مقدّسة، لبعض الوقت، ولتحقيق مصلحة عابرة لشخصٍ، قرّر منذ اليوم الأول أن يُخضع الجماهير له بالدجل والخرافة، وحين يتحقّق المراد يتم التخلص من أوعية الوهم، بمنتهى الشراسة والقسوة.

هكذا، صعدوا بإبراهيم عبد العاطي إلى قمة الحلم القومي الخادع، ليكون ضمن آلة الدعاية الهادرة لترشيح الجنرال السيسي لرئاسة الجمهورية، ثم ألقوا به من الأعلى إلى قاع التنكّر والإلغاء، ليموت عاديًا منسيًا مهملًا.

قصة حزينة ومؤلمة تتشابك تفاصيلها مع قصص أخرى لرموز سياسية واجتماعية، مارست المهمة ذاتها، تسويق وهم اسمه عبد الفتاح السيسي، بوصفه الجنرال الأعظم في التاريخ، والقائد السياسي الضرورة، الأهم في المرحلة، والعسكري العاشق للدولة المدنية، الذي انقلب على رئيسه انتصارًا للثورة.

الفرق بين هذه النماذج وإبراهيم عبد العاطي أن أصحابها محترفو سياسة وبروباغندا، بينما الأخير مواطن بائس بلا أي خبرة سياسية، قرّر أن يقتنص فرصة المجد الزائف، ويكون انتهازيًا مثلهم.

رحم الله إبراهيم عبد العاطي، الذي كان أداة وضحية لألاعيب دولة الخرافة.

أضف تعليقك