بقلم.. مصطفى اللداوي
انتهت حوارات القاهرة بسرعةٍ وعلى عجلٍ، ولم تستغرق وقتاً طويلاً على عكس كل التوقعات والمخاوف، ولم تمدد أيامها وتفتح جلساتها، ولم تعلق الحوارات لمزيدٍ من الدراسة والاستشارة، كما كان يظن المراقبون والمتابعون، وعامةُ الشعب الفلسطيني وممثلو القوى والفصائل، أن حوارات القاهرة ستكون صعبة ومضنية، وقاسية وشديدة، ولن تنتهي بسهولة، ولن يتم الاتفاق فيها بسرعة، فالقضايا التي نشرت وجداول الأعمال التي سُربَت، ومواقف القوى والفصائل التي عُمِّمت، كانت تشير إلى أن الحوارات ماراثونية، وأن الاتفاق فيها ليس سهلاً ولا قريب المنال، خاصةً في ظل أجواء عدم الثقة، والتجارب الفاشلة التي سبقت، ومجموعة القرارات التي حَصَّن بها الرئيس مراسيمه.
لكن الصورة العامة التي جمعت ممثلي الفصائل، والبسمة العريضة التي علت محياهم، ونسخة البيان الختامي المرفوعة كعلمٍ ورايةٍ، وسط مخايل الانتصار والسعادة، وإشارات الابتهاج والفرحة، تشير كلها إلى أن القوم قد نجحوا في تجاوز كل العقبات، وحل أغلب المشاكل التي كانت مثارة، ولم يعد هنالك قلق أو شك في أن الانتخابات التشريعية ستجري في موعدها، وأن كافة آلياتها وأدواتها وقوانينها ونظمها ومحكمتها الخاصة قد تم الاتفاق عليها، وبالتالي لا مكان لمشاعر الخوف والريبة، ولا لتحليلات المشككين وتصريحات الغاضبين المستثنيين من المشاركة في الحوار، فالمفوضون بالحوارات وممثلو القوى والفصائل قد أعلنوا باسم مرجعياتهم أن الحوارات ناجحة، والنوايا سليمة، والأجواء إيجابية، والدروب نحو الانتخابات سالكة وميسرة.
إلا أن الشعب الفلسطيني فطنٌ ذكيٌ، حذرٌ منتبه، مقروصٌ ملذوغٌ، خائفٌ وَجِلٌ، يرفض أن يصدق رواية المجتمعين في القاهرة بسهولة، ولا يقبل بالكلام دون الأفعال، ولا يسلم بالصورة التي نشرت ولا بالبيان الذي أذيع، ويريد أن يطلع على عمق الحوارات وحقيقة القرارات، وما إذا كان المفاوضون قد تجاوزوا حقاً الصعوبات والعقبات، أو أنهم قد رحلوها فقط إلى الاجتماعات القادمة، وحق للشعب الفلسطيني أن يشك ويقلق، وألا يصدق ويطمئن، فالصورة تخدع، والبيانات تكذب، والوقائع تنفي، والتجارب السابقة تؤكد مخاوفهم وتعزز شكهم، وتؤيد حاجتهم إلى مزيدٍ من الخطوات العملية التي تؤكد جدية الاتفاق، وسلامة النوايا.
يحق للشعب الفلسطيني صاحب القضية الأصيلة، ومحل المسألة ذات النقاش والحوار، أن يشك في صدقية التصريحات، وأن يطالب بالمزيد من التوضيحات، وأن يرفض أن تكون جلسات الحوار مغلقة دونه، ومداولاتها أسراراً عليه، في الوقت الذي اطلع عليها وعرف بها من لا يستحق، وتابعها وسجل مجرياتها من لا تعنيه المسألة الفلسطينية بمفهومها الوطني والإنساني، وربما ساهم فيها اقتراحاً واعتراضاً، وقدم أفكاراً ووضع لها شروطاً، أعداءُ الشعب وخصومُه، بينما هو محرومٌ من معرفة ما جرى، والإحاطة بمواقف القوى وممثلي الفصائل، في حين أنه المعني الأول بالمعرفة والاطلاع، كونه المُحَاصَر والمُعَنَّى، والمُضطَهد والمُعَذب، وهو الذي ستنعكس عليه نتائج الحوارات سلباً أو إيجاباً، وحصاراً أو فرجاً.
المتحاورون في القاهرة لا يمثلون فصائلهم فقط، ولا يعبرون عن أحزابهم وحسب، وإنما يمثلون الشعب الفلسطيني كله، وينوبون عن أبنائه في الوطن والشتات، وعليهم كما يقدمون تقاريرهم إلى قيادتهم ومسؤوليهم، أن يقدموا تقريرهم الشفاف إلى شعبهم الذي فوضهم وقَبِلَ بهم، فهم المرجعية الأساسية، وأصحاب القضية الأصلية، وأهل الشرعية الحقيقية، وبدونهم لا قيمة للمتحاورين، ولا شرعية للمفاوضين، إذ يمكن للشعب أن يسحب ثقته منهم، وأن يعلن عدم شرعيتهم، وأنهم غير ذي صفةٍ فلا يمثلونهم ولا ينطقون باسمهم، اللهم إلا إذا صارحوهم وكاشفوهم، ولم يكذبوا عليهم ولم يخدعوهم، فهذا الشعب الذي قدم وضحى، والذي صبر واحتسب، يستحق من قيادته كل الوفاء والتقدير، وصدق الولاء وشفافية التقرير.
مطالب الشعب الفلسطيني من المتحاورين في القاهرة كانت واضحة جداً، وشفافة للغاية، وصريحة بما فيه الكفاية، فقد طالبوا قبل عقد الانتخابات بكل مستوياتها بحل كل المشاكل العالقة، وعدم ترحيلِ أيٍ منها إلى المراحل التالية، فالجدية بعد الانتخابات تذهب والمسؤولية تزول، والوعود تتبخر والمواعيد لا تقدس ولا تحترم، إذ لا ضغوط بعدها ولا حاجة تستدعي الاستعجال أو الالتزام.
لهذا فقد كان مطلبهم الأول والأساس هو الحفاظ على الحقوق الوطنية للشعب في أرضنه ووطنه ومقدساته، ورفع الحصار ووقف العدوان، وتحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام البغيض، وجمع كلمة الشعب وتوحيد صفه، وإصلاح النظام السياسي، وتوحيد أجهزة السلطة وضبط معاييرها، وتوطين عقيدتها وتصويب سلوكها، وتشكيل حكومة وحدةٍ وطنيةٍ من مختلف الأطياف الحزبية، وتمكينها من العمل في شطري الوطن، وتثبيت المشاركة الوطنية الشاملة واحترام نتائج العملية الديمقراطية، والعمل على تحسين شروط حياة الشعب ورفع المعاناة عن أبنائه، وتمكينهم من العيش الكريم في ظل سياسات الاحتلال القاسية بحقهم، والإصغاء إلى مطالبهم وحاجات فئاتهم المختلفة، وتمكينهم من استعادة حقوقهم في الراتب والوظيفة، وفي العرض والفرصة، فهم جميعاً سواء في هذا الوطن يستحقون المساواة والعدالة.
هل نجح المتحاورون في القاهرة في تحقيق مطالب الشعب واستجابوا إلى شروطه، أم أنهم فقط أنجزوا ما يضمنون به صوته ويكفلون به مشاركته، وبعد ذلك يعودون إلى ما كانوا عليه من الإهمال والتقصير، وعدم المسؤولية العامة وغياب الأمانة الوطنية، أم أنهم استجابوا للضغوط التي مورست عليهم، وخضعوا لشروط الاستضافة وإملاءات الوصاية فأعلنوا القبول والموافقة على البيان الذي أعد، والقضايا التي طرحت، دون أن يكون لهم الحق في الحوارات الجدية والمناقشات المسؤولة، ونسوا أن الفجر سيكشف الحقيقة، ونور الصباح سيفضح الرواية، وحبر البيان يثبته الصدق وتحفظ مصداقيته الشفافيةُ والأمانةُ، والصراحةُ والوضوحُ.
أضف تعليقك